كتب طوني عيسى في الجمهورية:
يسأل كثيرون: مِن أين جاء جبران باسيل بالقوة، وإلامَ يستند لـ”يتمرجل” على “حزب الله” ويوجِّه الرسائل بلا تحفُّظ إلى أمينه العام السيد حسن نصرالله. وهل الأمر مجرّد مناورة متفق عليها أم هي خلاف حقيقي؟
في رأي البعض أنّ “مراجل” باسيل جزء من سيناريو متفق عليه بين الحلفاء، لإمرار المرحلة بلا رئيس للجمهورية، لأنّ “الحزب” لم يصل بعد إلى لحظة المكاسب التي يعمل لتحقيقها، ضمن صفقة سياسية متكاملة. وبعد ذلك، سيحصل التوافق داخل الصف الواحد.
لكن آخرين يعتقدون أنّ الأمور وصلت بين “الحزب” و”التيار الوطني الحر” إلى مرحلة من التحدّي والتردّي أكبر بكثير من أن تكون مناورة. ولو كان الأمر متفقاً عليه بين الطرفين، فعلى الأقل ما كان باسيل يصل إلى حدّ المسّ بأمور يعتبرها “الحزب” من الثوابت أو المحرّمات.
مثلاً، لم يكن باسيل ليردّ مباشرة على السيد نصرالله، ولا ليذهب إلى حدّ تشويه صورة المقاومة لدى الرأي العام بالقول مثلاً إنّها تحمي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو تهادنه، أو القول إنّ فرض رئيس الجمهورية اليوم سيكون أشبه بفرض رئيس بالدبابة الإسرائيلية. ولو كان الخلاف الظاهر بين باسيل و”الحزب” مجرد مناورة متفق عليها، لاكتفى باسيل بالتكتكة السياسية وتجنّب المسّ بصورة “حزب الله” وثوابته.
أصحاب هذا الرأي يقولون إنّ الخلاف بين الطرفين جدّي، وربما يوصل إلى فك التحالف المعلن في مار مخايل العام 2006. والسبب هو أنّ المصالح اختلفت بينهما بانتهاء عهد الرئيس ميشال عون، وأنّ “حزب الله” يريد فعلاً إيصال حليفه القديم فرنجية إلى بعبدا، بعد تأخُّر في الموعد طال ست سنوات.
طبعاً، تُثار هنا مسألة أخرى: مَن الأكثر ولاءً، أو تحالفاً، مع “حزب الله”: باسيل أو فرنجية؟ فـ”الحزب” يعرف فرنجية ويثق فيه جيداً، منذ عقود، وهو حليفه من دون شك قبل عون، وعندما كان عون في موقع الصراع مع “الحزب”. وربما كانت لباسيل بعض أقنية الاتصال مع “الحزب” قبل “تفاهم مار مخايل”، لكن التحالف لم يتحقق قبل ذلك.
ولكن، في المقابل، يقول قريبون من “التيار”، إنّ فرنجية حليف للرئيس بشّار الأسد قبل أي كان، ومن خلاله هو حليف “حزب الله”. وأما باسيل فهو حليف “الحزب” في الدرجة الأولى، ومن خلاله هو حليف دمشق. ففي أي لحظة تمايز بين دمشق وطهران، سيكون باسيل أقرب إلى “الحزب” من فرنجية.
في أي حال، واقعياً، لن يستطيع أحد إيصال رئيس للجمهورية إلى بعبدا من دون رضا “حزب الله”. أولاً، لأنّه والرئيس نبيه بري يمسكان تماماً بقرار الطائفة الشيعية، ولا مجال لانتخاب رئيس للجمهورية يتحدّى إجماع هذه الطائفة بحجمها الكبير والفاعل. وثانياً، لأنّ “الحزب” يمتلك على الأرض قوة لا يتمتع بها أحد سواه. والتجارب، على مدى عقود، أظهرت أنّ “الحزب” يستخدم هذه القوة عندما تستدعي الحاجة ذلك.
ولكن، إذا كان خلاف “الحزب”- باسيل جدّياً، فهو على الأرجح لا يتعلق بـ”الثوابت”، أي بالنهج السياسي الذي يتبعه باسيل إذا وصل إلى بعبدا. فهذا النهج جرت تجربته مع عون، ولن يتبدّل. ما يعني أنّ “الحزب” قد يعود إلى باسيل إذا وافق فرنجية على الانسحاب من المعركة لسبب أو لآخر، مع أنّ ذلك يبدو صعباً حتى اليوم.
في السياسة، هناك ورقة قوة أساسية لدى باسيل، وهي أنّه يستطيع تأمين غطاء تمثيلي مسيحي لا شك فيه لـ”الحزب”، وهذا ما لا يستطيعه فرنجية. وربما ليس في مصلحة “حزب الله” أن يضع “التيار الوطني الحر” في موقع المعارضة للعهد المقبل، لأنّ ذلك سيجعل المسيحيين جميعاً في مواجهة أو اختلاف مع “الحزب”. وفي هذه الحال، من أين يحصل “الحزب” على التغطية المسيحية، ولمدة 6 سنوات؟
ما عدا باسيل، مَن هو الرئيس القادر على تحصيل التغطية التمثيلية المسيحية ويمكن أن يوافق عليه “حزب الله”؟ هل سيكون “الحزب” مضطراً إلى القبول بقائد الجيش العماد جوزف عون مثلاً، الذي ربما يكون الوحيد القادر على تأمين هذه التغطية؟
وما الثمن الذي سيحصل عليه “الحزب” ليوافق على العماد عون بدلاً من باسيل؟ وفي هذه الحال، لماذا لا يقلّص الأثمان ويتبنّى ترشيح باسيل من داخل “الصف”، كما سبق أن تبنّى ترشيح العماد ميشال عون في العام 2014؟
بخلافه مع باسيل، يبدو “الحزب” في وضعية التحدّي لإرادة القوى المسيحية الأساسية، ما سيدفعها إلى التقارب في المسائل المتعلقة بالشراكة في النظام، على رغم تنازعاتها “الزعاماتية” الصغيرة. وفي المقابل، سيجد “الثنائي الشيعي” نفسه مضطراً إلى “الاحتماء” بالتغطية السنّية والدرزية.
يعني ذلك أنّ الصراع سيتخذ طابعاً طائفياً واضحاً في المرحلة المقبلة. وستزداد شراسته بإطالة زمن الانهيار والفوضى والفراغ، والطوائف “ستأكل بعضَها”: منها ما سيحاول تقليص الخسائر، ومنها ما سيحاول الحسم بتحقيق الغلبة.
ومن مؤشرات المشهد، الصراع الذي بدأ يستشرس حول المواقع والحصص: من موقع الرئاسة إلى آخر وظيفة في الإدارة. والأخطر هو أن يأتي أحد- من خارج المشهد أو داخله- ويقرّر استثمار صراع الطوائف لتحقيق غايات لا ناقة للبنانيين فيها ولا جَمل. وفي تجارب سابقة، خاضت الطوائف اللبنانية مداورةً هذا الامتحان الغبي، وسقطت فيه جميعاً.