كتب دكتور باتريك مارديني في الجمهورية:
برز نقاش حاد في لبنان حول ضرورة إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة، تشرك القطاع الخاص، لتعزيز الأداء والسماح بزيادة المداخيل وإعادة تكوين الودائع. وقد قابل هذا الطرح تحذير من خطورة «بيع أصول الدولة» و»توريطها في سداد فجوة مالية» ستذهب للأثرياء على حساب «الفقراء والأجيال القادمة». ولكن للأسف، وكما هو الحال في العديد من المواضيع المفصلية في لبنان، فقد تمّ تحريف المفاهيم، فحصل خلط بين مفهوم «الدولة» ومفهوم «القطاع العام» وخلط بين «الأصول» و»القطاعات»، ما أدّى إلى تغييب نقاش جدّي حول هذا الإصلاح.
ويُعتبَر كلٌّ من الأفراد والشركات الخاصة والمجتمع المدني والأهلي جزءاً من الدولة اللبنانية. لذا، تشمل أصول الدولة مباني القطاع العام وأراضيه ومؤسساته، كما تشمل أملاك القطاع الخاص ومؤسّساته من أفراد وشركات. وطبعاً، لم يقترح أحد في لبنان بيع أصول الدولة، بل يجري النقاش حول نقل إدارة أو ملكية بعض أملاك القطاع العام إلى القطاع الخاص، بحيث تبقى هذه الأملاك جزءاً من الدولة اللبنانية. ولعلّ التعبير الأصح هو إعادة هيكلة القطاع العام، أي النظر في حجمه الحالي وتقييم قدرته على تقديم الخدمات الأساسية للمواطن وتحديد كيفية تحسين هذه الخدمات.
كما ينبغي التمييز بين الأصول العامة من جهة والقطاعات الاقتصادية من جهة أخرى. فمثلاً، تُعتبر كهرباء لبنان مؤسسة عامة وتملك أصولاً عديدة مثل معامل الإنتاج والأراضي وشبكة النقل وخطوط التوزيع والمستحقات وغيرها. ولكن كهرباء لبنان تختلف عن «قطاع الكهرباء» الذي يشمل بالإضافة إليها مقدّمي خدمات التوزيع وشركات تدير بعض المعامل وامتيازات مناطقية مثل كهرباء زحلة وكهرباء جبيل والمولدات الخاصة ومزارع طاقة شمسية التي بدأت تظهر أخيراً. وللتمييز، يمكن مثلاً إبقاء إدارة مؤسسة كهرباء لبنان وملكيتها بيد القطاع العام، وهو ما يسمّى عن طريق الخطأ «عدم بيع أصول الدولة»، ولكن في الوقت عينه يتمّ فتح قطاع الكهرباء إلى شركات خاصة تنافس كهرباء لبنان. ويشكّل قطاع الصحافة مثالاً على ذلك، فتلفزيون لبنان والجريدة الرسمية هي مؤسسات عامة تعمل في قطاع الصحافة إلى جانب مؤسسات خاصة، أي بقية التلفزيونات والصحف اللبنانية.
وبالعودة إلى لبّ النقاش، يعتمد لبنان حالياً النماذج الاقتصادية التالية:
(1) الاحتكار لصالح مؤسسة عامة: وتحتكر كهرباء لبنان قطاع الكهرباء وأوجيرو قطاع الإنترنت والريجي التبغ والتنباك.
(2) الاحتكار لصالح شركة خاصة: وتحتكر شركتا الاتصالات قطاع الخليوي.
(3) الاحتكار لصالح شركة مختلطة: يحتكر كازينو لبنان، الذي يملك مصرف لبنان حصة فيه، قطاع ألعاب الميسر.
(4) الاحتكار المزدوج لصالح شركة مختلطة: تمارس شركة طيران الشرق الأوسط احتكاراً مزدوجاً على النقل الجوي، بمعنى أنّ الخيار ينحصر بينها وبين شركة أجنبية أو شركتين على كل وجهة سفر.
(5) منافسة بين شركات خاصة في ظلّ تدخّل كبير من القطاع العام: حمى المصرف المركزي (العام) القطاع المصرفي (الخاص) من المنافسة الأجنبية واستحوذ على الجزء الأكبر من توظيفاته ووضع له قوانين تنظيمية صارمة.
(6) منافسة مؤسسات عامة لمؤسسات خاصة: منافسة حافلات النقل العام للباصات الخاصة في قطاع النقل البري والمدارس الرسمية للخاصة في قطاع التعليم والمستشفيات الحكومية للخاصة في قطاع الصحة، إلخ.
(7) منافسة بين شركات خاصة حصراً من دون تدخّل يُذكر: مجمل القطاعات الاقتصادية من سياحة وصناعة وزراعة.
ويمكن الإجماع، أنّ نماذج الاحتكار لصالح مؤسسة عامة أو شركات خاصة أو شركات مختلطة أو التدخّل الكبير للقطاع العام (النماذج 1 إلى 5) لم تعط النتائج المرجوة من ناحية الخدمة الرديئة أو التكلفة المرتفعة أو حتى غياب الشفافية المطلوبة. ومن هذا المنطلق، نشك في أن تنجح مؤسسة مستقلة لإدارة أصول القطاع العام في تعزيز الأداء بشكل كبير إذا استمر الاحتكار في القطاعات المختلفة. ونشك أيضاً بقدرة القطاع العام على إدارة الاحتكارات بشكل فعّال، وذلك لأنّ المشكلة تكمن في مبدأ الاحتكار بحدّ ذاته وليس بالقطاع العام او الخاص.
أما نماذج المنافسة من دون تدخّل حكومي يُذكر (6 و7)، بين مؤسسات عامة ومؤسسات خاصة، أو بين شركات خاصة حصراً، فقد أعطت نتائج أفضل في لبنان، ويمكن أن يُبنى عليها لخدمة جميع المواطنين، ولا سيما الفقراء والأجيال القادمة. ونجحت المنافسة مثلاً في قطاع الصناعات الغذائية في تأمين السلع المرجوة، على الرغم من غياب الكهرباء الذي يعيق الزراعة والصناعة على حدّ سواء. ونجحت المنافسة في إنتاج قطاع سياحي رائد، على الرغم من ارتفاع أسعار تذاكر السفر من وإلى لبنان. ونجحت المنافسة بين المدارس بتأمين مستوى تعليمي مقبول للجميع في معظم الأحيان، وذلك رغم وجود مشاكل في الاتصالات والانترنت. وبالملخص، استطاعت القطاعات المبنية على المنافسة بتأمين السلع والخدمات والوظائف لكافة افراد الشعب اللبناني، على الرغم من إعاقة الاحتكارات العامة والخاصة لعملها.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ الانقسام على نماذج المنافسة صحي وطبيعي. فاليسار يفضّل عادة وجود مؤسسات عامة إلى جانب الشركات الخاصة. فهو لا يمانع وجود مدارس ومستشفيات وشركات كهرباء واتصالات وطيران خاصة، طالما استمرت المؤسسات العامة في الوجود وتأمين خدمات للفقراء، مثل المدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية وكهرباء لبنان وأوجيرو وطيران الشرق الأوسط. أما الأحزاب التي تميل نحو الحرية الاقتصادية، فهي تفضّل خصخصة المؤسسات العامة، بعد فتح القطاعات على المنافسة والاعتماد على الأسرة أو الجمعيات لتأمين المساعدات الاجتماعية للمحتاجين، مع إمكانية تخصيص برامج حكومية عبر القطاع الخاص. أما النماذج التي تعتمد على الاحتكار، فهي تنتشر في دول ينخرها الفساد، منها من هو اشتراكي ومنها من هو يميني. وتستعمل الحكومات الفاسدة الاحتكارات لتعيين أزلامها وتلزيم المحاسيب، ما يضمن سيطرتها على جميع مفاصل الحكم. فأي قطاع عام نريد للأجيال القادمة؟