كتب طارق ترشيشي في الجمهورية:
مع بداية الحملات الرئاسية المتعلقة باستحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، كان الجميع يدرك انّ هناك توجّهاً كبيراً لدى رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية لترشيح نفسه للرئاسة، وقد بدأ الرجل يعدّ العدّة لذلك في اليوم التالي لانتخاب الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول 2016، ولم يفت معارضيه انّه سيكون مرشحاً يدعمه «الثنائي الشيعي» وحلفاؤه، نظراً لاعتبارات تتصل بالتوازنات الدستورية في لبنان، وكذلك التوازنات الاقليمية السياسية في المنطقة.
إثر الانتخابات اندفع معارضو رئيس تيار «المردة» في عملية تطويق سياسي له على المستويين الوطني والمسيحي، فإذا بهم ينتشون بنتائجها، معتبرين انّ صورة المجلس النيابي الجديد لا تسمح بالإتيان بسليمان فرنجية الذي خاض الانتخابات بخطاب وطني، رافضاً التنّكر لحلفائه بعد الموجة المسيحية العارمة التي خاضها رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ضدّهم. إذ انّ فرنجية لو أقدم على ذلك لكان قد حصد عدداً كبيراً من المقاعد المسيحية اكثر من المتوقع. ولكنه مع ذلك، فقد اعتبر نفسه رابحاً كونه قد حافظ على ما لديه على الرغم من الخطاب الطائفي والمذهبي والاموال الطائلة التي صُرفت في مواجهته، علماً انّ هناك ثمة من يقول إنّه خسر نائباً في دائرته من أصل ثلاثة نواب، إلّا انّ الحقيقة هي انّ الاتيان بالنائب الثالث كان في حاجة إلى ثلاثة آلاف صوت فقط. وهنا تجدر الاشارة، على سبيل المثال، انّ هناك احزاباً سياسية في هذه الدائرة قد ربحت مقعدين بـ 18 ألف صوت، فيما ربح تيار «المردة» مقعدين بـ28 الف صوت.
وفي اليوم التالي للانتخابات، بدأ فرنجية خوض معركته الرئاسية، واضعاً وراءه نتائج الانتخابات النيابية، مؤمناً بتمثيله المسيحي، وقد وصل الأمر به اليوم إلى ان يكون مرشحاً أول يتربع على غالبية وطنية مطلقة، وما يؤكّد ذلك موقف كل من جعجع ورئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل الداعيين إلى تعطيل جلسة انتخابه.
واليوم يعمل هؤلاء ومعهم من الجهة الاخرى رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، على تطويق فرنجية مسيحياً ونزع الصفة التمثيلية عنه، واضعين على الطاولة الذريعة الميثاقية التي تعني بمفهومهم أن يحوز فرنجية على رضا إما باسيل وإما جعجع، كممر إلزامي، ضاربين عرض الحائط المفهوم الدستوري الاول، وهو أنّ رئيس الجمهورية يمثل وحدة لبنان. إلّا انّ هذه العملية قد باءت بالفشل للأسباب الآتية:
ـ اولاً، لم يفلح باسيل في استجداء جعجع بهدف فك عزلته السياسية التي يمر فيها على المستوى الوطني العام. إذ انّ جعجع يعتبر، وفق قريبين منه، انّ باسيل يهدف إلى التقاط صورة معه بغية مفاوضة «حزب الله» من موقع قوة، عدا عن انّ بقية القوى التي تسمّي نفسها «سيادية»، قد بنت جداراً اسمنتياً عازلاً بهدف منع باسيل من «الهبوط على الارض المسيحية»، ما دفع جعجع إلى انّ يضع شرطاً على باسيل، وهو ان ينزل إلى اي جلسة انتخابية يدعو اليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ويقترع إما له شخصياً او لميشال معوض. إلّا انّ باسيل لم يفصح عن هذا الشرط لاعتبارات تتصل بقواعده الحزبية التي تعتبر جعجع «شراً مطلق».
ثانياً- عجز جعجع عن جمع كافة معارضي فرنجية من المسيحيين، ولكنه لا يزال يعتبر أنّ في إمكانه ان يجمعهم جميعاً حول ترشيح نفسه، إذ انّ من الملاحظ انّه يعتمد في خطاباته على انّه يرفض أي «رئيس وسطي» ويتشبث بفكرة «الرئيس السيادي». ومن هنا يأتي رفضه لعدد من الأسماء كزياد بارود وجهاد ازعور، إذ انّه يعتبر انهما سيكونان «دمية» في يد باسيل.
ثالثاً- يحاذر رئيس حزب «الكتائب» سامي الجميل المعروف بردّة فعله الغرائزية ضدّ «حزب الله»، قبول طروحات باسيل وجعجع على حدّ سواء، إذ انّه يشعر دوماً حسب القريبين منه، بأنّه مهما فعل يبقى بمثابة «حطب في موقدة جعجع»، ولا يقدر لأسباب مجهولة على التمرّد على هذه الافكار وللوقوف إلى جانب فرنجية صديقه وصديق والده الرئيس أمين الجميل، بحيث اذا ما كان حزبه داعماً للعهد، ففي امكانه ان يقفز في عدد كتلته إلى ما يفوق العشرة نواب ويصبح لاعباً مسيحياً أساسياً.
رابعاً- يعتبر كثيرون من المسيحيين المستقلين، انّ السير مع جعجع فيه كثير من المحاذرة، خشية من إتمام صفقة مع فرنجية ورميهم على قارعة الطريق، بحيث يكونون في هذه الحال قد امتنعوا عن تأييد فرنجية وخسروا فرصة إحداث خيار مسيحي ثالث يعبرون من خلاله إلى رحاب السلطة والاستقلالية.
خامساً- جاء الاتفاق السعودي ـ الايراني ليفتح مجالاً أمام فرنجية من خلال ليونة سعودية متوقعة لحسابات اقليمية، ما يعني انّ فرص التسوية مع فرنجية باتت اكثر حتمية من أي جهة مسيحية ستصطدم حتماً بقرار دولي بانتخاب رئيس للجمهورية وتسيير عجلة الدولة، علماً انّ معارضي فرنجية يدركون انّ الموقف السعودي لم يكن في الأساس سلبياً منه، لا بل كان يضع معايير معينة تستبعد فرنجية في زمن وتنطبق عليه في زمن آخر.
سادساً- من المفيد الإشارة إلى انّ ما ورد في الأمس على لسان الرئيس نبيه بري، عندما استند في حديثه إلى لقاء بكركي الرباعي عام 2014، الذي كرّس فرنجية ضمن الأقوياء في طائفته، رافضاً فكرة الرجوع عنه لأسباب كيدية. ومن المفيد التذكير هنا بواقعة يجهلها كثيرون، وهي انّ فرنجية وعند صوغ بيان بكركي بعد هذا اللقاء الرباعي، وضع ملاحظة جرى تدوينها من خلال ممثله في لجنة صياغة البيان، ومفادها أنّ هذه المعايير لا تنحصر فقط في الأقطاب الاربعة، لا بل تنطبق على كثير من المسيحيين، وقد سمّى في حينه كلاً من النائبين السابقين نايلة معوض وبطرس حرب، معتبراً انّهما يجسّدان الوجدان المسيحي الحقيقي شأنهما شأن كثيرين.
ـ سابعاً، حافظ فرنجية على علاقة وثيقة بالبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي يرى انّ وصوله إلى سدّة الرئاسة لا يُعتبر انتقاصاً من المسيحيين، بل يراه انعكاساً لوصول أحد رموز المسيحيين إلى السلطة، لما له من ميزة استيعابية للجميع، ولا يحمل اي فكر إلغائي تجاه احد، لاسيما المسيحيين منهم، ناهيك عن قدرته على حل اكثر المشكلات المستعصية في لبنان، ألا وهي مشكلة النازحين السوريين التي تشكّل هاجساً وجودياً للبنانيين ولا سيما منهم المسيحيين.
يبقى انّ انتخاب فرنجية دخل مرحلة في غاية الجدّية، وفي الإمكان ان يشهد اللبنانيون في صباح اي يوم دعوة مفاجئة يوجّهها رئيس المجلس النيابي إلى جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، يُقسم فرنجية خلالها اليمين الدستورية.