كتب نبيل هيثم في الجمهورية:
عندما اعلن الرئيس نبيه بري دعمه ترشيح الوزير سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، ولاقاه بذلك الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، قامت قيامة بعض من ضاع حلمهم الرئاسي، واعتبروا أنّ هذا الدعم، تطاولٌ على ما سمّوها شرعيّة الحقّ المسيحي والماروني الحصري في تسمية رئيس الجمهورية المقبل، سواء بنسخته السيادية التي يريدها سمير جعجع، لكسر سطوة ما يسمّيها «الممانعة»، وإنهاء ما يعتبرها حقبة تحكّم «حزب الله» وهيمنته. او بنسخته المستنسخة من عهد ميشال عون التي يريدها جبران باسيل مكرّرة لما يعتبره عهد الصفاء والنقاء والإصلاح والتغيير والأمل، فيما يعتبره آخرون عهد الرئيسين، وقلة الوفاء، والفساد والإفساد، وتضييع الفرص والتأسيس للانهيار.
هذا التطاول، وكما يعنيه هؤلاء، يُدرج ترشيح فرنجية خارج تلك الشرعية، وهو أمر لا شك مستفز لمريدي رئيس تيار «المردة»، الذين يعتبرون انّ شرعية ترشيحه مستمدة من تاريخه، وتاريخ عائلته السياسية، وبيته السياسي وبعده الوطني، ولا تحتاج بالتالي إلى مظلّة بلا تاريخ او حتى جغرافيا، تغطّيه.
فرئيس تيار «المردة»، يقول مريدوه، ليس طارئاً على العمل السياسي، فقد خَبِر السياسة حين كان بعض خصومه الحاليين، ومدّعو العفّة السياسية، لا يزالون في «اللفافة» ولم يبدأوا الحبو السياسي بعد، كما انّه ليس طارئاً على رئاسة الجمهورية التي عاشها مع جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية، قبل أن يولد الكثير من الحالمين برئاسة الجمهورية، والرافضين لوصوله الى سدّة الرئاسة، والتي كانت أيضاً، على وشك أن يتربّع على عرشها في انتخابات الـ2016 لولا أنّ ظروف تلك المرحلة، حكمت بانتخاب العماد ميشال عون.
من هنا، يؤكّد مريدو فرنجية، أنّ الفارق كبير جداً بين الدعم والترشيح، فالترشيح أمر متروك له يقرّره في اللحظة التي يراها مناسبة، وأما دعم وصوله إلى رئاسة الجمهورية، سواء الذي جاء على لسان الرئيس بري او على لسان السيد حسن نصرالله، فتعبير عن موقف منطلق من قناعة راسخة بأنّ انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان هو استحقاق وطني، ليس من حقّ احد أن يصادره، او يمنع أحداً من أن يبدي الدعم، او ان يجادل فيه من يبديه. وخصوصاً انّ الدعم قائم على قاعدة ثابتة بأنّ الكلمة الفصل في هذا الاستحقاق هي لصندوقة الاقتراع.
أيّ مراقب، على ما يقول مواكبون لتطورات الملف الرئاسي، لا يتكبّد كثير عناء لتتكشف امامه حقيقة أنّ من يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعي بالتسمية والترشيح، مصابون بانفصام عن الواقع، ولا يزالون تحت تأتير النشوة العددية التي أفرزتها الانتخابات النيابية، وزرعت في أذهانهم اعتقاداً وهمياً بأنّها ملّكتهم مفتاح رئاسة الجمهورية، رافضين أن يصدّقوا ما أكّدته الأيّام التالية بأنّها لم تكن أكثر من نشوة خادعة، نفد رصيدها في انتخابات رئاسة المجلس النيابي وما تلاها، وعلى ما هو واضح ومؤكّد، لا مؤونة لها للصّرف في البنك الرئاسي.
في رأي هؤلاء، انّ الابتعاد عن هذا الواقع بات حالة مرضية غير قابلة للشفاء، تُحقن عمداً بما قد يجعلها تتفاعل أكثر لفرض وقائع جديدة على المسرح الرئاسي، فلا ينازع أحد المبتعدين عن الواقع في حقهم في أن يبنوا قصورهم الرئاسية على أرض الواقع، او في عالم الأحلام والأوهام، ولكن هذا لا يعني التسليم في ان يعطوا لأنفسهم الحق في أن يبالغوا في قفزهم فوق الواقع والوقائع، ويطوّبوا لأنفسهم شرعية تسمية واختيار رئيس الجمهورية، وفق المواصفات التي لا تنطبق سوى على أشخاصهم وحزبياتهم وحساباتهم، ومن هو خارج شرعية التسمية هذه، لا شرعي.
من هنا، يتابع أصحاب هذا الرأي، فإنّه من حق سمير جعجع وجبران باسيل أن يترشّحا للرئاسة الأولى، فكلاهما يعتبر نفسه متحلّيا بكلّ الصفات والمواصفات التي تؤهّله لرئاسة الجمهورية، ولكن هل ثمة من يستطيع أن ينفي حقيقة انّ طريقهما إلى القصر الجمهوري مسدود؟ وهل ثمة من هو مسلّم بأنّهما المالكان الحصريان لشرعية الحق بالتسمية والترشيح، لينتزعا من خلال هذه الملكية من سليمان فرنجية حقه في أن يترشح، أو أن يؤيّد احد ترشيحه، أو يُنتخب رئيساً للجمهورية؟
فجعجع، يتابع هؤلاء، جرّب حظه في سلسلة جلسات انتخابية عقدها مجلس النواب في الانتخابات السابقة، قبل يتحوّل موقفه 180 درجة ويؤيّد ترشيح خصمه اللدود العماد ميشال عون. وامام هذا الإنسداد، فكّر في ان يترشح في الاستحقاق الحالي، لكنّه لم يُقدِمْ للموانع ذاتها السياسية وغير السياسية، التي تقطع عليه طريق الوصول إلى القصر الجمهوري. بل غطّى عجزه عن الترشّح شخصياً، تارة بترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون، ثم التخلّي عن هذا الترشيح، وتارة أخرى بالتسلية بترشيح ميشال معوض، رغم إدراكه استحالة انتخابه. وأقصى ما استطاعه هو ان يؤمّن لمعوض اصوات كتلته النيابية، إضافة إلى أصوات «مسايرة له» من بعض من يسمّون انفسهم تغييريين وسياديين ومستقلين، ولا ننسى هنا شراكة وليد جنبلاط الذي تبرّع بأصوات «اللقاء الديموقراطي»، قبل أن يقرّر أن يسحب هذا التبرّع بعد 11 جلسة انتخابية فاشلة، أشعرته بأنّه يضع أصواته في سلّة «مفخوتة».
واما باسيل، والكلام لمواكبي تطورات الملف الرئاسي، فليس خافياً أنّه يريد رئيساً مكمّلاً للعهد السابق بمواصفات برتقالية صافية، وليس خافياً أيضاً على القاصي والداني، أنّه كان أول من راوده الحلم الرئاسي منذ ما قبل نهاية ولاية عمّه، ولكنه منذ ذلك الحين فشل في تسويق نفسه، بل اعتمد منذ البداية، نهجاً لم يترك فيه للصلح مطرحاً مع أحد، حيث لم يترك طرفاً داخلياً إلّا وشيطنه، كما لم يترك ساحة اشتباك الّا وكان طرفاً اول فيها، من دون ان يوفّر ما كان يوماً حليفه الأقرب، أي «حزب الله»، الذي أصاب باسيل بخيبة كبرى بتبنّيه ترشيح الوزير فرنجية. ومع ذلك، يستمر باسيل في التلويح بترشيح نفسه، دون أن يُقْدِم على ذلك حتى الآن. وليس سرّاً أنّ خصومه المتوزّعين على مختلف التلاوين السياسية، يتمنون له أن يُستدرج إلى الفخّ ويرشّح نفسه، بالتأكيد ليس من باب المحبة والتعاطف معه، أو لأنّ مواصفات الرئيس تنطبق عليه، أو لأنّه كما قال عمّه أهل للرئاسة، بل من موقع الشماتة والتشفي به، لأنّهم يفترضون انّ النتيجة محسومة سلفاً بسقوط هذا الترشيح.
خلاصة هذا الرأي، انّ جعجع وباسيل، وعلى الرغم من نبرة الصوت العالية التي يرفعانها باستمرار على الخط الرئاسي، الّا انّهما مأزومان، صحيح انّهما يمتلكان الكتلتين المسيحيتين (المارونيتين) الكبريين، لكنهما لم يستطيعا أن يقدّم كلّ منهما مرشّحاً جدّياً، بوزن سليمان فرنجية، كما انّهما، وهنا الأساس، لا يستطيعان أن يسيّل كلّ منهما أصوات كتلته النيابية في صندوقة الاقتراع الرئاسية، على نحو ما يشتهيه كل منهما، كقوة أساسية مرجّحة وحاسمة للاستحقاق، تميّل الدفة الرئاسية في اتجاه أي مرشح، والمثال على ذلك، يتبدّى في عدم مبادرة «التيار الوطني الحر» إلى تقديم مرشح معيّن، وكذلك في رحلة الإحدى عشرة جلسة فاشلة التي قادها جعجع في ترشيح ميشال معوّض. وتبعاً لهذا الواقع المسدود ترشيحاً وانتخاباً، فإنّه في موازاة التسييل الصّعب في صندوقة الانتخاب، لم يبق سوى التسييل السهل في صندوقة تعطيل نصاب جلسة الانتخاب، إن كانت فيها حظوظ فرنجية عالية. ويتناغم مع هذا التوجّه بعض التغييريين والسياديين.
ولكن، هل انّ تعطيل النصاب الملوّح يمكن أن يصمد؟
ثمة من يقرأ في هذا المشهد، خشية جدّية لدى الملوّحين بتعطيل نصاب جلسة الانتخاب، من ان يكون أمر ما يجري من تحت أرجلهم، ومن ان تتمظهر على الساحة الرئاسية إن عاجلاً او آجلاً، تداعيات ومفاجآت مرتبطة بالاتفاق السعودي- الايراني، وما تبعه من تطورات اقليمية نوعية، ومرتبطة ايضاً بالحراك الجاري بين باريس والرياض، والتي يُقال إنّ فرنجية في قلب هذا الحراك.
ويضيف صاحب هذه القراءة: يوحي موقفا جعجع وباسيل ومن خلفهما كتلتا «لبنان القوي»، و»الجمهورية القوية» ومن معهما من مستقلين وتغييريين وسياديين، انّ قرار تعطيل جلسة لانتخاب فرنجية او اي مرشح يرفضونه، هو قرار حاسم ونهائي لا رجعة عنه، ولكن التجربة اللبنانية التاريخية، تؤكّد أنّ السياسة في لبنان ليست ثابتة، بل هي متحركة تبعاً للظروف التي تستجد سواء في الداخل او من الخارج. وبالتالي، فرشة المواقف اليوم من الملف الرئاسي تبدو عالية، ولكن هذه المواقف، قد لا تكون هي نفسها غداً. فثمة مقولة معبّرة ودالّة أسقطها بعض السياسيين على الخط الرئاسي، مفادها أن لا مكان للبنانيّين في ملعب الكبار، وبالتالي اعتاد لبنان دائماً أن يكون ساحة للتلقّي والتنفيذ، وليس ساحة للقرار، وعندما يُتخذ القرار بين الكبار في شأن رئاسة الجمهورية، سيجد خلفه أنصار كثيرون، وتلحس كل الشعارات وتُطفأ المماحكات، وتمحى كل العراضات والفيتوات. وإنّ غداً لناظره قريب.