
كتب قاسم يوسف في اساس ميديا:
كذاك الذي صام دهرًا ثم أفطر على بصلة. هكذا هي حالنا مع نواف سلام. نحن الذين طالما شعرنا بأن الدولة صارت قاب قوسين أو أدنى، وأن السنوات العجاف ولت إلى غير رجعة، لنعود وندرك أن الآتي لا يختلف قيد أنملة عن أولئك الذين رحلوا، بل وينقص عنهم في خبرته ودرايته وقدرته على التقدير وعلى التدبير.
أصابنا نواف جميعًا بخيبة أمل. قبل يومين من الاستشارات النيابية، وقفنا على قلوبنا لا على أقدامنا. وحين بدأت أرقامه تتراكم في قصر بعبدا، شعرنا بأن الدنيا تضحك لأجلنا، وقد رحنا نصفق لتكليفه حتى أحمرت أيدينا.
قلنا إنه الثابت الصلب، في موازاة المرتعشين أو الزئبقيين. قلنا إنه العارف القارئ الممتلئ، في مواجهة التصحّر والأفول والاضمحلال. قلنا إنه وجه مشرق من وجوه بيروت، وقد سطع كالنجم في عواصم الكون. قلنا إنه العدالة وإنه الحق وإنه الحقيقة، في مواجهة الزيف والرجعية والعفن. قلنا وقالت الناس ما لا يحصره نصٌ أو مقال أو كتاب، لكننا نسينا أن التفاؤل في هذه البلاد هو صنو البحث عن بصيص ضوء في كومة من الركام.
حيرة ما بعدها حيرة
لا شيء يفعله نواف سوى الاستمرار في الانحدار. لا خطاب ولا خطابة. لا حضور ولا كاريزما. لا موقف ولا صلابة. لا سياسة ولا مناورة. لا شيء. مقعد فارغ جلس عليه وظل كما كان. يدعو إلى جلسة مجلس الوزراء وكأنه مدير التنظيم والبرتوكول. يأتي مبعوث دولي ويذهب دون أن يشعر بوجود رئيس لسلطة تنفيذية في هذه البلاد. كل الرؤساء أشد منه عودًا وأبلغ حضورًا وأعمق تأثيرًا. حتى إن اجتماع سمير جعجع بتوم براك يكاد يكون الاجتماع الموازي لاجتماع الأخير بالرئيسين عون وبري، أما نواف، فمن يذكر أساسًا أنه اجتمع؟
يعز علينا أن نضرب هذه الصورة الوردية التي ولدت حصرًا في مخيالنا. كدنا نظن على مدى سنوات أن قاضي القضاة وسفيرنا الألمعي وصاحب الصالون المحشو بالكتب، هو ضالتنا المشتهاة للخروج من التسطيح، وأن حضوره في مفاصلنا اليومية سيشكل علامة فارقة ومميزة، كواحد من الشخصيات المرموقة التي تزحف نحوها البلاد زحفًا حين يمسها بأس عظيم.
أصابنا نواف بخيبة أمل. مرد الخيبة ليس لانعدام قدرته. ولا لانعدام خبرته. ولا لعناده الذي صار حكاية الناس في بيروت. بل لشعورنا العميق أن الرجل الذي أردناه حلاً للأزمة صار جزءًا منها، وقد يذهب أولئك الذي تطرفوا في حبه ومدحه وتسويقه حد اعتباره أزمة قائمة بذاتها، بعد أن أصابنا وأصابهم جميعًا بحيرة ما بعدها حيرة.
ما هي الإضافة التي أسهم بها نواف منذ وصوله إلى السراي؟ ماذا فعل كرئيس للسلطة التنفيذية ليمنع السطو على صلاحياته؟ ما هو الإنجاز الذي قامت به حكومته منذ ولادتها وحتى الان؟ ماذا عن الاتفاقات والأوراق الدولية التي يجب أن تمر لزامًا في الحكومة؟ ماذا عن إصلاح الدولة والمؤسسات والقضاء؟ ماذا عن البيان الوزاري الذي وعدنا بالمن والسلوى؟
قد يسأل سائل: ماذا عن رئيس البلاد؟ وهو محق قطعًا في سؤاله وفي خيبته. ولنا أن نرمي الرجل بخطاب قسمه. لنذكره أن ما قاله لا يشبه الذي فعله ويفعله. لكن موقعه الدستوري المستمر لست سنوات يسمح بنفض يده. ولا صلاحيات تخوّل الرئيس أن يقطع، إلا إذا أراد مخالفة النصوص، وهو يفعل دائمًا، لكن في الشكل، دون مضمون معلن، على الأقل حتى الآن. والسلطة منوطة حصرًا بمجلس الوزراء. ولهذا المجلس رئيس هو أنت يا دولة الرئيس، وقد انتهت مرحلة السماح وفترة الانتظار، فإما أن تبادر وإما أن تغادر، لكن إياك أن تظل في المراوحة، أو أن تذهب نحو ملء الفراغ باحتفالات فلكلورية، على سجية حلقات الدبكة التي وقفت عند رأسها في مهرجانات بيت الدين، بالتوازي مع اندثار الدولة والموقع والهيبة، وقد استحالوا جميعهم أثرًا بعد عين.
هذه بلاد موجوعة حتى النخاع. كان ينقصها رجل دولة من طراز الرجالات الكبار. شعرنا لبرهة أننا وجدنا ضالتنا في نواف، عله يكون ريمون إده جمهوريتنا الجديدة. لكن يبدو أننا لم نتشاءم بما فيه الكفاية، ولم ندرك أننا منذ سنوات طوال صرنا محكومين بخيبات الأمل.