كتب رفيق خوري في نداء الوطن:
لبنان ينتقل من مرحلة الى أخرى في خداع النفس. ولا شفاء من هذا المرض الذي هو في نظر المرضى قمة الصحة. ففي مهلة الشهرين الأخيرين من ولاية الرئيس ميشال عون لإنتخاب رئيس جديد، تصرف كثيرون كأن الشغور الرئاسي سياسة وقدر لا خيار سيئ. وقبل أسابيع وعلى مدى أشهر كان شعار الجميع هو «لبننة» الإستحقاق الرئاسي من دون حاجة الى إنتظار الخارج الذي لعب الدور الأكبر في إختيار الرؤساء منذ العهد الإستقلالي الأول. اليوم، وبعد وصول الأطراف المحلية الى الجدار والعجز عن فتح ثغرة فيه، صار التسليم بانتظار «الأقلمة والتدويل» للإستحقاق الرئاسي هو «أمر اليوم».
وحتى الآن، فإن البلد المتهاوي تحت أثقال الأزمات الخانقة للناس، يدفع ثمن الترشيح المحكوم بالبقاء خارج الإنتخاب. وهو مهدد بأن يدفع ثمن «الترئيس» الذي ينتهي بعد ست سنوات بما يشبه قول عون: «ما خلّونا، ولكن ما خليناهم». والواقع أنهم «خلّوه» يفعل ما يهمه في التوظيف والتوريث. وهو «خلّاهم» يمسكون بمضمون السلطة ويمارسون أدواراً وسياسات خارجية أضرت بعلاقات لبنان العربية والدولية. والحجة هي أن دور «حزب الله» وسلاحه مسألة إقليمية أكبر منا ومن قدرتنا، بصرف النظر عن الرغبة. لكن «حزب الله» ليس أكبر من لبنان. ولا دور له من دون بلد يشكل الحاضنة اللبنانية له، وإن اعتبر أن «شعب المقاومة» هو «البيئة الحاضنة».
ولا جدوى من البحث عن حل بسيط لأزمة معقدة جداً، وليس لها سبب واحد. يستسهل كثيرون إختصار كل شيء به. فمنذ عقود ونحن نسمع هذا الطرف أو ذاك يقول في مرحلة ما إنه يريد حل الأزمة ولن يستمر في إدارة الأزمة. وما حدث هو أن الأزمة إزدات سوءاً، ولا تزال تنحدر بنا الى أعمق هاوية. وأقصى ما صرنا نحلم به، وسط أفظع الكوابيس، هو التحسين الى حد ما في إدارة الأزمة.
والشيء الوحيد المزدهر هو مواسم الرهانات. موسم الرهان على الضوء الأخضر الإيراني والرعاية الأميركية للإتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل للبدء في التنقيب على الثروة الغازية والنفطية في المنطقة الخالصة للبنان. ثم موسم الرهان على الرعاية الصينية للإتفاق السعودي-الإيراني. كان التصور أن إتفاق الترسيم البحري هو نقلة مهمة في اللعبة الجيوسياسية، بما يفتح أمام الوطن الصغير فرصة لإستثمار الثروة والتركيز على التنمية بدل القتال. لكن حسابات «محور المقاومة» بدت مختلفة تماماً، بحيث أعيد العمل الفلسطيني المسلح من لبنان في إطار «وحدة المساحات». والرهان على «إتفاق بكين» يأتي كالعادة في إتجاهين متعاكسين من طرفين: واحد يرى إطلاق يد إيران بالكامل في لبنان والمنطقة. وآخر يتصور أن طهران مضطرة لسحب أذرعها ونفوذها من المنطقة. والواقع شيء آخر.
ذلك أن الإتفاق السعودي-الإيراني، حسب المعلن منه، يتركز على القضايا الثنائية بين البلدين. أما القضايا الإقليمية، فإنها تحتاج الى إتفاقات عدة، إذ إن كل سطر في الإتفاق يتطلب إتفاقاً آخر. ولا أحد يعرف متى يأتي دور لبنان، وتسريع الإنتخاب الرئاسي، لا فقط في التفاوض بين الرياض وطهران بل أيضاً في التفاوض الذي تدخل فيه أميركا وفرنسا ومصر وقطر وربما سواها. ولا شيء يوحي أن تجميع عناصر الطبخة الرئاسية مسألة سهلة في الحسابات الإقليمية والدولية قبل الحسابات اللبنانية.
«الخطأ الجسيم يوازي سوء النية» حسب قاعدة قانونية فرنسية. وما أكثر الأخطاء الجسيمة على أيدي قيادات في لبنان وآخرين في الخارج.