كتب د. توفيق هندي في اللواء
ناقل الكفر ليس بكافر! لا تعتمد هذه المقاربة على ما هو حدثي، بل أنها مقاربة استراتيجية، قائمة على نظرة علمية، مجردة من العواطف والتمنيات، إلى المصالح التي تحرك الأطراف الدوليين والإقليميين والداخليين، وموازين القوى في ما بينهم.
فلنعترف بداية بأن لبنان يرزح تحت الاحتلال الإيراني عبر «حزب الله» وأن لبنان يعيش حالة اللادولة.
ولنعترف بأن ميزان القوى في لبنان هو داخلي وخارجي، وبأن المكوّن الداخلي الرئيسي هو المكوّن العسكري-الأمني وليس الشعبي أو البرلماني أو الاقتصادي الخ… وأن الرئيس القادم لا بد أن يعكس موازين القوى تلك.
اللاعبان الرئيسيان الخارجيان في الانتخابات الرئاسية هما الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية واللاعب الرئيسي في لبنان هو «حزب الله» بحكم وزنه العسكري-الأمني.
أما الطرفان الدوليان الأكثر تأثيرا»، فهما الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا.
أولوية أميركا هي مواجهة الصين ومحاربة روسيا. أما السياسة التي تتبعها في الشرق الأوسط، فيمكن تلخيصها بإدارة الأزمات ليس إلا.
لذا، لا يتعدى موقف الولايات المتحدة من لبنان السعي إلى استقراره النسبي، وإبقاء الجيش والقوات الأمنية قيد الحياة كقوى احتياط لمستقبل غير محدد للدولة اللبنانية ولموازنة سيطرة «حزب الله» عليه، وكذلك الحفاظ قدر الإمكان، على وضع القطاع المصرفي عامة ومصرف لبنان خاصة، إلى جانب اهتمامها بالإفادة في مرحلة لاحقة من النفط والغاز اللبنانيّين.
من هذا المنطلق، يمكن فهم موقف واشنطن استعجال إجراء الانتخابات الرئاسية كمدخل للحفاظ على هيكلية «الدولة» بصرف النظر عمن يحكمها ويديرها في المرحلة الراهنة، وأيضاً مطالبتها الطبقة السياسية بإجراء إصلاحات الحد الأدنى انطلاقاً من تفاعل لبنان الإيجابي مع صندوق النقد الدولي، مع ضرورة عدم ترك مركز حاكم مصرف لبنان شاغراً، ومن بعده مركز قائد الجيش. وسوف تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع الرئيس المنتخب برغماتياً كما في السابق.
أما فرنسا، فلها مصالح في لبنان ولكن قدرة تأثيرها محدودة.
1) لم تعد فرنسا قوة عظمى. فلبنان يشكل المنصة الوحيدة المتبقية لها في الإقليم. وهي تنطلق من علاقاتها المميزة معه، استناداً إلى دورها التاريخي فيه كما إلى دورها التأسيسي للبنان الكبير.
2) تسعى فرنسا إلى تحقيق ما تيسّر من مصالح إقتصادية، ولا سيما في قطاعات الغاز والنفط والكهرباء، كما في الموانئ والبريد وبعض مؤسسات الدولة.
3) تسعى إلى ملء الفراغ الذي أحدثه تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة.
4) لا تزال تأمل في ظروف أكثر ملاءمة لتطبيع علاقاتها مع إيران، لما لهذا التطبيع من إفادة إقتصادية، من خلال ممالأة «حزب الله».
من هنا، يمكن فهم إصرارها على معادلة سليمان فرنجية – نواف سلام في ما يخص الانتخابات الرئاسية، مع إمكانية استبدال نواف سلام بشخصية تريدها السعودية.
وأما إيران فهي تنظر إلى لبنان على أنه منصتها الرئيسية لإطلاق «مشروعها الإسلامي» الكوني.
ما هو وقع الاتفاق السعودي-الإيراني على إيران؟
1) أراحها من الحصار السياسي والإقتصادي الذي فرضته عليها أميركا خاصة والغرب عامة، وفتح أبواب التعاون في كل المجالات مع السعودية والعرب بتطبيع علاقاتها معهم.
2) وضع حداً للحركات الإحتجاجية داخل إيران، علماً أنها لم تكن تشكل في الأصل تهديداً فعلياً للنظام.
3) فرملت إيران استهدافاتها للكيانات العربية على شاكلة شبه هدنة، محافظة على مكونات «فيلق القدس» و«محور المقاومة» ومركزة جهدها و«جهادها» في المرحلة الراهنة على تدمير «الكيان الموقت» الذي «أيعن وحان وقت قطافه».
ملاحظة: للجمهورية الإسلامية في إيران ما يشكل علة وجودها، ألا وهو مشروعها التاريخي لتعميم الإسلام على المعمورة، وفقاً لاجتهاد «ولاية الفقيه». تخوض هذه المسيرة الجهادية بحرب طويلة الأمد عماداها «فيلق القدس» و«محور المقاومة»، علما» أن قائدهما غير المعلن هو السيد حسن نصر الله، خلفا» لقاسم سليماني، وأن «حزب الله» هو المكوّن الرئيسي للفيلق والمحور.
ومن جهتها لن تقامر السعودية باتفاقها مع إيران في الانتخابات الرئاسية اللبنانية.
وتهدف السعودية من اتفاقها مع إيران إلى ما يلي:
1) تحصيل بولصة تأمين في حال حدوث حرب على المواقع النووية الإيرانية.
2) أداء دور القيادي الأول في العالم العربي وتحويل السعودية لاعباً إقليمياً ودولياً أساسياً.
3) تعويض فقدان معادلة «الأمن مقابل النفط»، نتيجة التغيير في السياسية الأميركية، وذلك بتفعيل علاقات ودية قائمة على المصلحة المشتركة مع الصين وروسيا وعدد من الدول المنتمية إلى «البريكس» ومعاهدة شانغاي.
4) العمل الجاد لعودة سوريا-الأسد إلى «الحضن العربي» بهدف تحقيق معادلة غير معلنة: عودة اللاجئين السوريين-وهم بغالبيتهم من الطائفة السنّية- إلى سوريا مقابل المساعدة بإعمارها.
5) الخروج من مستنقع اليمن من أجل التفرغ لتزخيم خطة 2030 والتقدم في مسيرة تحقيق الأهداف الأربعة الآنفة الذكر.
بغية الحفاظ على كل هذه المكتسبات، لا يمكن للسعودية أن تغامر في إسقاط مرشح «حزب الله» للإنتخابات الرئاسية لأن إسقاطه يشكل ضربة» موجعة لإمساكه بالوضع اللبناني وخطراً على مشروع تحويل لبنان منصّة» لمشروع إيران «الجهادي»، فضلاً عن إدراك السعودية أهمية «حزب الله» لإيران وعلاقاته العضوية بها. لذا، لا يمكن أن تسمح السعودية لنفسها بأن تدعم «المعارضة»، مباشرةً أو مواربةً في سعي هذه المعارضة إلى التخلص من مرشح «حزب الله».
وأما «المعارضة» فهي تتقهقر طالما هي حابسة نفسها في لعبة السلطة في اللادولة اللبنانية.
منذ زمن بعيد أحاول أن أُقنع بعض المكونات الصادقة «للمعارضة» بأن معركتْي مواجهة الاحتلال الإيراني والتخلص من الطبقة السياسية المارقة لا تؤديان إلى نتيجة من خلال العمل من داخل مؤسسات اللادولة الدستورية. حتى اليوم، فشلت بمسعاي هذا.
وها هي «المعارضة» تسجل الفشل تلو الآخر. قالوا إن الإنتخابات النيابية مفصلية وأنهم سيتمكّنون من تغيير الوضع وخفض سعر الدولار. وفشلوا.
ثم قالوا أن الإنتخابات الرئاسية مفصلية وإن في إمكانهم توحيد صفوفهم لانتخاب رئيس «سيادي إصلاحي تغييري» وأنهم يرفضون رئيسا» «لا طعم ولا رائحة».
بعدها، قالوا أنهم سوف يحولون دون انتخاب فرنجيه بمقاطعة الإنتخابات.
واليوم، وبعد الإتفاق السعودي-الإيراني، وطلب الخارج «الصديق» لهم ضرورة عدم تعطيل الإنتخابات، باتوا يطرحون اسم جهاد أزعور أو سواه مرشحاً للرئاسة من أجل توحيد «المعارضة» حول اسمه وإقناع جبران باسيل به (بعدما سبق أن صوروا هذا الأخير بالشيطان الأعظم).
سوف يفشلون في مسعاهم هذا. لأن باسيل لا يمتلك القدرة ولا مصلحة له في انتخاب رئيس لا يريده «حزب الله» لألف سبب وسبب، ولأنه يخشى التهميش الحقيقي إذا ربط مصيره بالالتحاق بأعداء الأمس الذين لا يمكنهم الفوز في مطلق الأحوال.
غير أن «حزب الله» سوف يستوعب باسيل مجدداً بعد انتخاب فرنجية، وذلك من خلال المحافظة على وضعيته على الساحة السياسية وحصته في السلطة و«زعامته» لأن «الحزب» بحاجة له.
وبالنتيجة، سوف يُنتخب سليمان فرنجية.
لن أدخل أبداً في مهزلة تعداد الأصوات كون كل نائب أو كتلة له ثمنه بحصة في «السلطة» الاحقة أو في تحصيل مبلغ من المال بالدولار «الفرش».