كتب منير الربيع في المدن:
من حيث لا يتوقع أحد، خرج رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، بتصريح أشار فيه إلى أن جلسة حكومية ستعقد يوم الخميس، لتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان. ينطوي الخبر على الكثير من التجاوز لرئيس الحكومة وموقعه.
أعلن برّي موقفه بعد ساعات على اجتماعه برئيس حكومة تصريف الأعمال، وبعده أخرج التسريب فأعلن الموقف. تماماً كما حصل يوم تسرب الفيديو الشهير حول مطالبة برّي لميقاتي بتأخير تقديم الساعة إلى ما بعد شهر رمضان. والتجاوز الثاني هو ضرب لكل ما له علاقة بالقواعد التي كانت قائمة سياسياً، حول التفكير في كيفية التعاطي مع هذا الاستحقاق، بتولي نواب حاكم المصرف المركزي صلاحيات رياض سلامة.
عرّاب النظام
رمى برّي الكرة في أكثر من اتجاه. أراد القول للجميع إننا طالبنا بتعيين حاكم جديد، وأنتم من رفضتم، فلتتحملوا المسؤولية وما ستؤول إليه الأوضاع المالية. ظهر برّي بذلك وكأنه عرّاب النظام وآلية عمل سياسته، في الحكومة وفي المصرف المركزي. هو يعلم أن التعيين لن يحصل، لعدم توفر فرص انعقاد الجلسة الحكومية. فلا حزب الله ولا وزراء تيار المردة سيشاركون بالإضافة إلى وزراء التيار الوطني الحرّ. حاول برّي وميقاتي استمالة القوات اللبنانية من الناحية المعنوية، بالتواصل مع كميل أبو سليمان لإبلاغه بإمكانية تعيينه، ذلك يشبه شراء السمك وهو في الماء.
بمعزل عن كل هذه التفاصيل، هناك ما هو أبعد من المسألة التقنية أو الإجرائية. محاولة التمديد لرياض سلامة، أو التمديد لمسار عمله، غايته الحفاظ على وقائع النظام وآليات عمله والتمديد لها، بدلاً من انهيارها كلها. هذا لا ينفصل عن كلام لمسؤولين أميركيين لدى التداول معهم في مسألة احتمال انهيار لبنان كلياً، أو تقسيمه كما تقسيم دول أخرى. فيأتي الجواب الأميركي بأن أي مؤشر على تقسيم بلد معين هو في إنشاء أكثر من مصرف مركزي فيه، لأن ما يرمز إلى انتهاء وحدة دولة معينة واتجاهها إلى التقسيم، هو بانهيار المصرف المركزي فيها، وإنشاء مصارف متعددة على هوامشها.
ما يمثّله رياض سلامة
في كل الأحوال، ماذا تعني نهاية عهد رياض سلامة؟ بداية، هو مصرفي أتى إلى لبنان ضمن ورشة عمل أعد لها رفيق الحريري، فيها موظف مالي استثماري مصرفي هو رياض سلامة، وفيها محاسب ومراقب دقيق هو فؤاد السنيورة، وتضم اقتصاديين رفيعي المستوى مثل باسيل فليحان، ومهندسين عملوا على إعادة الإعمار، وكتّاب وأصحاب رأي من بينهم نهاد المشنوق. كانت هذه مجموعة عمل الحريري، وكان سلامة يمثل الامتداد المستمر للحريرية السياسية، والعصب الأساسي لما تبقى منها بعد اغتيال رفيق الحريري.
مثّل رياض سلامة بإحدى الحقب الرابط الاقتصادي والمالي بالنظامين اللبناني والسوري. إذ عمل على إعطاء الكثير من النصائح والإرشادات لدمشق، ما قبل العام 2003 وما بعدها. كما أنه يمثل صلة الوصل بين كل القوى السياسية والطائفية في لبنان، كما أنه يمثل علاقة القوى السياسية بطبقة رجال الأعمال والمصرفيين. فلعب دور المحرك الأساسي لكل هذه المنظومات والعلاقات، ومن ضمنها الهندسات المالية التي اعتمدها، أو بإيجاد الصيغ للالتفاف على العقوبات التي فرضت. نهاية ولاية الرجل، تعني أن هذا النظام الاقتصادي والسياسي الذي بني في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وكانت له تشعبات خارج لبنان من سوريا إلى الدول العربية الأخرى، قد انتهى.
“نظام” تصريف الأعمال
وجود رياض سلامة والذي أراد إرضاء الجميع، بما فيهم حزب الله، بالإضافة إلى نوعية الطبقة السياسية الحالية، والتي ليس في قدرتها إنتاج منظومة اقتصادية جديدة قادرة على وضع رؤية أو مشروع، كان ضرورياً. بغيابه، وكما هو الحال في السياسة، ستتمدد مرحلة تصريف الأعمال على أشلاء نظام سياسي غير قادر على أن ينتج أي حل. ولذا، لبنان مرشح لأن يذهب إلى التعايش مع تصريف أعمال مالي ونقدي، من دون القدرة على إعاد انتاج قواعد السوق، بل يعيش على القطاعات الموازية والسوق السوداء التي تقوم على الصرافين والاقتصاد النقدي. وهو ما كان قد عمل رياض سلامة على تأطيره وتعزيزه في السنوات الفائتة، قبل 17 تشرين، واستفحل بعدها. هذه الحالة ستؤدي إلى تعزيز دور الصرافين على حساب المصارف وعلى حساب الناس والمودعين.
نجح رياض سلامة سابقاً بإطالة عمر الاقتصاد اللبناني، الذي بدأ يترنح مع بداية الثورة السورية، ودخل في أزمة كبيرة في العام 2019.
في مرحلة ما بعد الرجل وفي إطار تعميم نموذج تصريف الأعمال، لن يكون هناك إمكانية لبناء نظام سياسي جديد أو نظام اقتصادي.