كتب أنطوان الدويهي في الشرق الأوسط:
تتخبط جماعات وقوى ما تبقى من دولة لبنان الكبير، كما جماعة «الدولة الشيعية» وقواها، داخل الفخ التاريخي الراهن، وسط الانهيار الشامل، من دون أي قدرة لها على الخروج منه وتخطيه نحو أي حل. إذ يستحيل تماماً، ضمن معطيات الواقع، أي حل، إن كان تطبيق اتفاق الطائف، أو محاولة تطوير «الصيغة اللبنانية»، أو اعتماد اللامركزية الإدارية والمالية، أو الصيغة الفيدرالية، أو إجراء إصلاحات حقيقية في المجالات التشريعية والاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية والصحية والتربوية وسواها، في ظل وجود «الدولة الشيعية» المتمكنة في ذاتها، وعبر نفوذها البالغ داخل مؤسسات ما بقي من دولة لبنان الكبير. فـ«الدولة الشيعية» قادرة على نسف هذه الحلول، إذا تعارضت مع مصالحها، وهي تتعارض حكماً
هل يكون الحل إذن في محاولة تفكيك «الدولة الشيعية» في المدى اللبناني؟ إنها، بدورها، مهمة مستعصية بالكامل. إذ يستحيل تفكيكها، أو إضعافها، لا بالقوة طبعاً، ولا بالحوار أيضاً. فالحوار معها لا يمكنه الوصول إلى نتيجة، ما دامت متمسكة بثبات بخطيها الاستراتيجيين الرئيسيين: تقوية ذاتها إلى أبعد حد، وتطوير نفوذها داخل الدولة الأخرى بكل الوسائل. وحتى لو رغبت قيادة «الدولة الشيعية» في إعادة النظر بهذين المنحيين، فهي لم تعد تستطيع ذلك. إنه منطق الفخ التاريخي الذي تطغى ديناميكياته الخفية على إرادات أطرافه. وهو الوهن في بنيان دولة لبنان الكبير، بعد كل ما أصابها من ضربات وندوب، الذي يغري الطرف الأقوى – «الدولة الشيعية» – بالمزيد من محاولات اختراقها. فمن طبيعة الفخ التاريخي أيضاً أن لا يدرك الطرف الأقوى فيه حدود قوته، وأن لا يعي الطريق المسدود الذي هو فيه.
في ضوء ذلك، ثمة الكثير من المبالغة منذ أشهر طوال في الاهتمام بمعركة رئاسة الجمهورية والتتبع اليومي لمجرياتها الداخلية والخارجية. ذلك أن الفخ نفسه لن يلبث أن يطبق على الرئيس الجديد، أياً كان. فإذا أتى رئيس تديره «الدولة الشيعية»، سيتيح لها ذلك المزيد من السيطرة على مؤسسات دولة لبنان الكبير ومقدراتها. لكن إلى أين؟ يُخشى أن تتحول بقايا هذه الدولة إلى هيكل عظمي فعلاً، مهدد في أي وقت بالانهيار. فهل تتحمل «الدولة الشيعية»، المخبأة وراءه، انهياره؟ وماذا تكون انعكاسات ذلك عليها في ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة والمأزق التاريخي الذي لا خروج منه؟ وإذا جاء رئيس وسطي بلا لون، فلن يغير شيئاً في مسار الأمور. وحتى إذا جاء رئيس على طرف نقيض مع «الدولة الشيعية» (وهو احتمال غير وارد قط) فلن يستطيع فعل الكثير أيضاً.
صحيح أن الانتخابات النيابية الأخيرة حدّت بعض الشيء من قدرات «الدولة الشيعية» داخل مؤسسات دولة لبنان الكبير، وصحيح أن الاتجاهات الكيانية اللبنانية، الخارجة عن سيطرة «الدولة الشيعية»، قد نظّمت نفسها واتبعت منحى جذرياً في الآونة الأخيرة، ما يعزّز ما بقي من مناعة في دولة لبنان الكبير، وصحيح أن تحرك أجهزة العدالة في دول غربية كبيرة ومؤثرة ضد حاكم مصرف لبنان السابق وشركاه ينبئ بمزيد من انكشاف المنظومة الحاكمة الفاسدة، السياسية والمالية والإدارية، أمام العالم، واحتمال محاسبتها. لكن من الصعب، داخل الفخ الراهن في المدى اللبناني، إرساء توازنات جديدة مؤثرة بين الدولتين.
على الرغم من كل ذلك، من الأهمية بمكان، وهي أهمية وجودية، أن تبقى الروح اللبنانية حية، قوية، متقدة، داخل هذا الركام وفوقه.
لأن الخروج من الفخ التاريخي المتعذر على أطراف الداخل، لن يتم إلا عبر تحولات خارجية، إقليمية، أو دولية، كبرى، لا ندري كنهها، ولا ندري لصالح من ستكون.
ولما كان، كما ذكرنا، كل تحول مجتمعي هو نتاج تفاعل بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، فلا بد من إذكاء جذوة الروح اللبنانية، كعامل داخلي فاعل، دائم الحضور.
فليست هي المرة الأولى التي يجد المكان اللبناني نفسه فيها في فخ تاريخي مطبق، يستحيل الخروج منه. حدث ذلك في عام 1861، وفي عام 1918، وفي عام 2005. وفي كل من هذه المرات الثلاث، شاءت أقدار التاريخ أن تأتي التحولات الخارجية الكبرى لصالح الروح اللبنانية، روح الحرية، والاستقلالية، والانفتاح على العصر والعالم، والحوار، والتفاعل، وإعلاء شأن العلم والمعرفة، والسعي إلى نمط عيش مميز، ما جعل من لبنان الصغير، ثم الكبير، «منارة الشرق» في كل المجالات على مدى 114 عاماً (1861 – 1975)، في النهضة الفكرية والثقافية والمعرفية، وفي التعليم الجامعي، والتعليم والتربية المدرسيين، وفي حفظ اللغة العربية وتحديثها، وفي الآداب، وفي الرسم والموسيقى وسائر الفنون، وفي الصحافة والإعلام، وفي الطباعة، والقضاء، والطب والبنى الاستشفائية، وفي البنى المصرفية، وفي الحيوية الاقتصادية، وقوة العملة الوطنية، والبنى السياحية، وفي مجال الاستثمار في الإنسان وفي الثروة البشرية، وعلى صعيد الانفتاح والتفاعل مع الحداثة والعالم، كجسر فريد بين الغرب والمشرق العربي.
وقد خلقت الذات اللبنانية في قلب المشرق نمط حياة فريداً، استفادت منه أجيال متوالية من اللبنانيين، تتحقق فيه الحريات الشخصية، حرية العيش، وحرية المعتقد والرأي والتعبير، وحرية التربية البيتية والتعليم، وحرية العمل والتنقل والسفر والعودة، ويكرّس قبول الاختلاف والتعدد، ويولي أهمية بارزة لنوعية الحياة البشرية، بحيث أضحى «نمط الحياة اللبناني» حلم العرب من المحيط إلى الخليج، وتمضية بعض الوقت في ربوع لبنان أمنية كل عربي. وأضحى لبنان مساحة الحرية الوحيدة المتاحة في المنطقة، وملجأ المعارضين والمضطهدين الأوحد.
هل سيأتي الخروج من فخ 2023، هذه المرة أيضاً، لصالح هذه الهوية اللبنانية نفسها؟ من يدري؟
لكن بارقة الأمل تكمن في إدراكنا معنى التاريخ فى المكان اللبناني على مدى الأزمنة الحديثة، من القرن الخامس عشر إلى القرن الحادي والعشرين، حيث يتميز هذا المكان، دون سواه، بالتجاذب الدائم بين حركتين متناقضتين: حركة الدمج في أنظمة الاستبداد، وحركة الإفلات منها نحو أفق وجودي آخر، سمته الحرية. والتجاذب نفسه مستمر.