سلايداتمقالات

القتال بالشهداء: لبنان إلى أين؟

كتب أحمد جابر في المدن:

سؤال إلى أين، تردَّد كثيراً في زمننا اللبناني، ولعلَّ أوّل من بَادرَنا به، سائلاً ومتسائلاً عجباً وتعجّباً، السياسي اللبناني وليد كمال جنبلاط.

السؤال لا ينتظر دائماً، جواباً، ومن يطرحه يضمر أحياناً، ردّاً، لكن صيغة “جهل العارف” البلاغية، تفسح المجال لتفكّرٍ قد يذهب إليه السامع، فيغني السائل عن تنكّب هموم الجواب.

العودة إلى طرح سؤال إلى أين، تطرح حقيقة تشابه المحطات اللبنانية في استعصاء أزماتها، وتعيد التذكير بخطورة السياق العام الذي كان إطاراً عامّاً للسؤال. من الذاكرة، وفي السياق “الأزْمَوِي” اللبناني، لقد جرى التساؤل بعد كل المرحلة التي تَلَتْ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان المقصود بالسؤال، يَومَها، حزب الله، أمّا اليوم، فإن المقصود بذات “إلى أين”، رئيس حزب القوات اللبنانية، الذي خاطبنا بجملة “أيّها” اللبنانيون، تعميماً، عندما خاطب شهداء حزبه تحديداً، وعندما كان يخاطب الجمع القواتي، المحازب والمناصر والمؤيد… على سبيل التدقيق. بإيجاز يُحيلُ إلى تفاصيل عديدة، لم يكن السيد سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، عموميّاً، بل كان ذا سياسة أسيرة نقطتين، أولاهما وقفت عند نصّ معنى شهادة من استشهد، وثانيتهما، التشبث بمعنى النصّ الماضي، بكل مضمونه الآفل، ليكون الخط الهادي لما يجب أن يكون عليه خط القوات اللبنانية، من تضحية ومن بذل وعطاء… يقترب من الشهادة ما أمكن الاقتراب، ويدخل إلى محرابها القُدْسيّ إذا ما استدعت “اللبنانية” القواتية هذا الدخول…

صار اللبنانيون مجدّداً أمام محدّدَات يصعب تجاوزها، لأنها على علاقة بأخلاق الفداء والتضحية، وبات المشهد أشبه بميدان صراع سلاح فرسانه “الشهداء”، بأسمائهم، وبسنوات أعمارهم، وبأماكن استشهادهم، وبأجداثهم، وبرخام الأضرحة، وبرائحة التراب…

خطورة سلاح الشهداء، انغلاقه على إمكان تجاوز معناه، هذا “معنوّياً”، أما خطورته الأدهى، فكامنة في اقتران اسم كل شهيد باسم عدوّه، وهذا الأخير، الذي صار شهيداً ميتاً، أو ما زال شهيداً حيّاً في أدبيات الطرف الآخر، سيظلّ عدوّاً في حياته وفي مماته، وسيظل مطعوناً في أخلاق تضحيته، وفي أخلاق استمراره في ممارسة قناعته المغايرة، وعليه، يظلّ موت المتحاربين اللبنانيين، مادة عداء خصبة، يُدار على عشبها ماء المقْتِ في المناسبات السياسية، ويسقى زرعها بماء الكراهية المتبادلة، في مناسبة الأزمات السياسية، المصيرية منها وغير المصيرية.

بصراحة لازمة:
لقد فقدت المواربة جدواها في الظرف اللبناني الراهن، وصار تدوير الزوايا السياسية سياسة مضرّة، هذا لأن تجهيل الفاعل، أو التقليل من آثار فعله، أو الالتفاف المناوِر المكشوف على استراتيجيته، من الأمور التي تقصي إمكان مباشرة الاقتراب من مواضيع الافتراق، حتى يكون ممكناً الاقتراب من نقاش سبل معالجتها.

بصراحة لازمة، لقد كان خطاب رئيس القوات اللبنانية في مناسبة إحياء ذكرى الشهداء، خطاباً غير سياسي، بل خطاب استنفار عصبوي، وجهته الماضي، أي الانفتاح على مادته، وهدفه الحاضر حتى إشعار آخر، تصعيد سياسة فتح الثغرات في الجدران الفاصلة بين الخيارات اللبنانية.

نكرّر، وفي الإعادةِ إفادة، إذا كان لبنان الذي يريده السيد سمير جعجع، لبنان “شهدائه”، فإننا نقول، ومن دون مفردات تخفيفيّة، إنّنا لا نريد هذا “اللبنان”، فإذا شاء رئيس حزب القوات تفصيلاً في أسباب الرفض، شئنا معه إعادة فتح الملفّات السياسية كلّها من تاريخ الصراع السياسي مع الشهابية، مروراً بالصراع مع الحركة الوطنيّة اللبنانية، قبيل وأثناء الحرب الأهلية، وصولاً إلى الصراع الحالي، مع الإسلام السياسي بفروعه المذهبية المتعددة.

نكرّر أيضاً، أن ما تنطق به أدبيات القوّات اليوم، لا يترك مجالاً للشك في عدم مغادرة القوات اللبنانية للمنطق الأصلي لسياساتها، وهي وإن كانت تدعو ذلك ثباتاً على العهد للشهداء، أو رسوخاً في الموقع اللبناني الأصيل، أو “تأرُّزاً” في التربة اللبنانية العصيّة على الاحتلالات…، فإننا نرى في كل ذلك انغلاقاً أصليّاً ساهمت المارونية السياسية في صنعه، واعتنت برعايته، على مدى سنوات من عمر هذا الكيان. تفيد في هذا المقام الذكرى، ويفيد القول، إن حلف المارونية الثلاثي في وجه الشهابية، ساهم في إسقاط محاولة البناء “الدولتي” التي سعى إليها الرئيس فؤاد شهاب. كان أقطاب الإسقاط الرموز الثلاثة، كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، كل من موقعه، ومن خلال أدبيات حزبه، تعاون على إفشال ما اعتبر اقتحاماً لبعض حصون الامتيازات الفئوية الطائفية، فكان ما كان من تعثر الإصلاح، مع مبادرة الحركة الوطنية اللبنانية، ومن استدراج لتدخلات أجنبية،  مع ما رافق ذلك، من مطالعات سياسية ما زالت موضع خلاف حتى تاريخه. خلاصة القول، إن الكلام القوّاتي عامل من عوامل “نكأ” الجراح السياسية، المنقولة من زمن سياسي لم يكن الخطيب القواتي موجوداً في موقع المسؤولية عنه وفيه، ولم يكن خصمه الذي يتوجّه به إليه، موجوداً فيه هو الآخر، لذلك، لا معنى للتوجه إلى حزب الله لدى الحديث عن تاريخ مقاومة عين الرمانة، بل يجب التوجه إلى كل من كان على جبهة الشياح، في موقع المقاومة الآخر. المغزى من ذلك، إن السيد سمير جعجع يستنهض مختلفين في الماضي، ليصارع مختلفين معه في الراهن، فيكون في مواجهة من “راجع وتراجع”، وفي مواجهة من ما زال مقيماً على التماس السياسي معه. أي سياسة هذه، التي تضيف إلى خطوط المواجهة خطاً إضافياً؟ وأية حكمة في توسيع صفوف “المختلفين”؟ هذا مع أن “حكيم” القوات كان “مقاتلاً” ولا تفوته مقتضيات المواجهة عندما يكون الأمر أمر فتح “جبهة” قتالية.

تتمة صريحة:
يجوز اعتماد صيغة “6 و6” مكرّر الميثاقية، في معرض نقاش الأطراف السياسية اللبنانية، وتقود حساسيّة التعرض لمذهبية بالاسم، إلى التعرض لمذهبية مقابلة بالاسم أيضاً، خاصةً عندما يكون “الإسمان” في موقع الاختلاف السياسي حول شؤون العامّة الوطنية… في امتداد اعتماد “الميثاقية السياسيّة”، نذكر وبصراحة أيضاً، أن لبنان المراد من قبل من يقول مثل قولنا، ماضياً وحاضراً، ليس لبنان الذي أراده شهداء المقاومة الإسلامية. نستمع إلى خطاب أمين عام حزب الله، فنخالفه الوجهة والسياسة في الأساسي من خطّه المُعلن، ويقارب السيد حسن نصر الله، مواضيع مفصلية، فيها الكياني الذي يطال الجغرافيا، وفيها الوجودي الذي يصيب الديمغرافيا وفيها الاستراتيجي الذي ينال من المصيري، انطلاقاً من معنى نشوء اللبنانية في كيان، مروراً بكل ما لدى اللبنانيين من آمال لبنانيتهم ومن معناها ومبناها… كل تلك المواضيع تقع موقع خلاف سياسي، لدى أطياف سياسية لها نصوصها المكتوبة، ولدى فئات اجتماعية تسعى إلى امتلاك نصوصها المستقلة الخاصة.

ممّا لا يحتمل شرحاً إضافياً، طلب شرح حول ما صار واضحاً لدى “الثنائية الشيعية”، فخطابها الراهن، الرئاسي وغير الرئاسي، يفصح عن تمثلها لأمر غلبتها السياسية واقعياً، ولمحاولة تصريفها في قنوات “الدولة”، سلطة وانتظاماً، بتغطية رسمية وأهلية. لنقل، إن التنازع يقع اليوم عند مفصل الغلبة “العارية”، والغلبة “المقنّعة”، ولنقل أيضاً، إن الأدوات التعبوية المستخدمة، تقادم بعضها وعلا الصدأ بعضها الآخر، لكنها وللمفارقة التعيسة، ما زالت قادرة على القتل غير… الرحيم.

لبنان إلى أين؟
على خطّ مخالفة السائد، اعتمدنا عنوان الاستقرار السياسي مدخلاً إلى كل معالجة، وجعلنا العنوان مقياساً لمخالفة هذه السياسة أو تلك، فبات ميزاننا حسّاساً يميل إلى كل دعوة تشي بحوار تهدئة، أو بكلام يحدّ من امتداد نار “العصبيّات” بين الأهليّات اللبنانية.

في السياق، تقع دعوة رئيس المجلس النيابي إلى الحوار المحدّد بزمن معيّن، وبآلية تتابع متواصل، واضحة، في موقع التهدئة التي تحتاجها المصالح الموضوعية للبنانيين، مواجهة طلب الحوار “بعُصَاب” المقاطعة، لن يوصل إلى أي لبنان، وتسقط حجّة المقاطعة المستندة على قراءة النوايا، فالطريق الأصوب إلى تفنيد وتبديد وهم الحوار، إن كان ثمّة من وهم، النزول إلى أرض واقع النوايا لكشفها على صعيد الملموس وعلى صعيد المحسوس. هكذا، ووفقاً لموجز مفيد: لبنان إلى أين؟ إلى الحوار. هل سيفضي الحوار إلى حل رئاسيّ تسووي؟ هذا ملك المتحاورين… أمّا سوى ذلك، فالفراغ الذي رحّب به رئيس القوات، في معرض رفض “الرئيس الممانع”، هذا من دون الالتفات إلى شياطين الفوضى التي قد تملأ هذا الفراغ.

رئيس تسوية؟ هو المطلوب. رئيس يباشر التهدئة؟ هو المرغوب… هذا على الضد من كل تصعيد سياسي، وفي كل خطاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى