
كتبت: كفا عبد الصمد
ليست المرة الاولى التي اكتب فيها عن الخريف، وطبعا لن تكون الاخيرة، يعنيني كثيرا هذا الفصل، رغم انه يحمل لي الكثير من المآسي والذكريات القاسية، غير اني اجد نفسي اسيرة ورقه الاصفر واغصانه العارية وسماءه الرمادية.. كل عام تأبى حروفي ان تصمت، وتلملم كلماتها المبعثرة وتبقى بعيدة، سيل من الافكار يتدفق لا يمكنني ايقافه، حتى باتت علاقتي بالخريف علاقة الرسام بريشته، لا يمكن ان يمر دون ان اترك شيئا مني على صفحاته العابرة.. علمت مؤخرا ان البكاء لم يجد نفعا، والوقوف على الاطلال لا يعيد عزيزا، فقط التجدد والبحث عن حياة مختلفة مستمدة من الماضي هي الفرصة للفوز بمعركة البقاء. كلنا يعيش معركته الخاصة، الاعداء كثر، والمشاكل لا تنتهي، فقط القوي هو من ينجح في التأقلم مع الظروف كيفما كانت، والعيش في هذا الفضاء الرحب بحثا عن امل يضيء في لحظة ما او فرحة تسرق طريقها الى قلبنا.. الحياة قاسية، ولا يحصل أي شخص على كل ما يتمناه او يريده، ننظر دائما الى نواقصنا، ونبحث عن ما يملكه الآخر حتى لو كان ما يملكه لا يعنينا ولا نهتم لأمره، فقط الرغبة في ان نكون “هو” بوجهه الباسم وأوقاته السعيدة، “هو” الذي لا نعرف عنه سوى ضحكات عابرة وصولات وجولات في عالم الفرح والسعادة، نريد هذا الوجه لأنه ينقصنا ربما، او لأننا لا نر من هذا الآخر سوى هذه الصورة النمطية، التي تبرز وجها كاذبا لحقيقة عابرة فرحتها لا تتعد الدقائق.. وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز هذا المفهوم، بتنا نبحث في حسابات من حولنا عن لحظات فرحهم المصورة، ونرسم ملامح حياتهم انطلاقا من هذه اللحظات ونتمنى لو كنا مكانهم، غافلين ما تخفي عيونهم من اوجاع او ربما مآسي. ما يعنينا ثغورهم الباسمة وإن كانت ابتسامة مزيفة إرضاء لمتطلبات الصورة، المهم أنها رسمت على وجهوهم في لحظة خاطفة، ورسخت هذه الصورة عنهم في مخيلتنا..
لا يمنحنا التظاهر بالسعادة سعادة حقيقية، وعندما نشعر بفرح غامر وحقيقي، لا يكون هدفنا توثيق هذه اللحظة لإعادة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي وافهام الناس والمتابعين، لأننا في زمن بات فيه الكل يتابع الكل، كم نحن سعداء وكم حياتنا جميلة ومريحة وخالية من المشاكل والاحزان، وما يراه الآخرون هو واقع وليس افتراض.. هذا في الشكل اما في المضمون، ان الصور التي تظهر ابتساماتنا الزائفة وسعادتنا المصطنعة هي صور افتراضية، تقترض من عالم الخيال نمطا معينا للجمال والحب والفرح، وتحاول اسقاط هذا النمط على واقع قد يكون بعيد عنها بعد الشمس عن الارض.. نتقمص ادوارا لا تشبهنا كي نخفي اوجاعنا ولامنا، على عكس فصل الخريف، الذي يعري اغصانه، ويسقط اوراقه، يتقبل الخسارة ويستقبل الغيم والمطر ويترك الهواء ينال من جمال طبيعته كي يبدأ من بعدها صفحة جديدة، مكررة ربما لكنها مختلفة بالتأكيد عن سابقاتها.. لا يحتاج الخريف الى مواقع التواصل الاجتماعي كي يبرز جماله، راض بشحوبه واصفراره واوراقه المهزومة تكسو الارض، متقبل لتغيراته دون خوف او تردد، متصالح مع ذاته، يعرف جيدا ان اغصانه لن تعرف الدفء اذا ما تعرت وغازلها رياح خفيفة تارة ومتمردة تارة اخرى. لو لم يترك اوراقه تذبل وتسقط ارضا لما عرفت اغصانه ولادات جديدة لأوراق اكثر خضارا وإشراقا وطراوة.. لم يكن الخريف بحاجة الى فوتوشوب حتى يحب ذاته، احب شكله بجميع تقلباته، وفرض نفسه على الآخرين لأنه واثق بان ما يحمله فيه شيء من الجمال لا الجمال الكلي وهذا يكفي… بعد ايام نطوي صفحة ونفتتح اخرى، نودع الصيف ونستقبل الخريف، فرصة نتعلم منها أن الورق الأصفر في شهر أيلول لعبة لا بد من إتقانها كي تستمر الحياة، وأن الجمال الحقيقي قد يظهر في ورقة صفراء تطارح الأرض حبا، أو غصن ذابل يعاند الرياح تحديا، وغيمة رمادية تحضر السماء لدموع الشتاء الغزيرة..
بيني وبين الخريف حكايات لا تنتهي، يتعبني مناخه، وترهقني ذكرياته القاسية، لكنه ينجح في استفزاز رغبتي بالكتابة، ويحملني دائما إلى أماكن جديدة وأحلام مختلفة، ينقلني الى حيث تكون البدايات ويجب أن لا تتوقف الحياة…