
كتب حبيب البستاني في اللواء:
في ما الاهتمام جارٍ بتعداد عدد اللبنانيين وتقسيمهم إلى طوائف ومذاهب ومعرفة من يملك الأكثرية العددية من بينها، غاب عن ذهن اللبنانيين لا سيما أهل السلطة أن الخطر الداهم آتٍ عبر البحار وتحديداً من سعي المنظمات الدولية لتوطين السوريين النازحين واللاجئين الفلسطينيين، وذلك تحت مسميات وعناوين إنسانية كبيرة ومنها حق السكن والعمل والحياة الكريمة.
لم يتوانَ لبنان ومنذ الاستقلال حتى اليوم من ممارسة دوره المضياف لكل النازحين واللاجئين الذين أتوا إليه هرباً من حرب وبطش وتأميم وتهجير، حتى ضاق البلد الأصغر في المنطقة بسكانه وقاطنيه وما أكثرهم، والذين طاب لهم العيش في ربوعه الجميلة مستفيدين من مناخ الحرية والديمقراطية الذي ينعم بها لبنان، وذلك بعكس البلدان العربية والمجاورة التي تتحكم فيها الأنظمة الدينية والتوتاليتارية حيث للدولة دين وحيث الحكم يمارس بصورة أقرب إلى القمع منه إلى الديمقراطية.
وبعيداً عن مقارعة الحجة بالحجة وبعيداً عن مواجهة مزاعم رئيس الحكومة المكلف، الذي ليته لم يكلف، حول عدد المسيحيين المتناقص وحول أكثرية الأراضي اللبنانية المملوكة من المسيحيين، وبعيداً عن تعداد اللبنانيين الذين أصبحوا كلهم أقليات نسبة لعدد السوريين والفلسطينيين المتواجدين بكثافة على أرض الوطن، أما كان أجدى برئيس حكومة تصريف الأعمال أن يقف وينفي ما صدر عنه من مزاعم حول الأعداد، إلّا إذا كان العدد الذي قد يعتبره البعض زلّة لسان يناسبه ويناسب طروحاته ومطامعه في الحلول مكان رئيس الجمهورية ومصادرة صلاحياته بحجة الفراغ وتسيير شؤون الدولة.
من الحب ما قتل
ولكثرة حب البعض للوطن والتزامه بالدفاع عن حقوق الناس ومصالحهم، فإن في تصرفاته اللاميثاقية من الإصرار على انعقاد مجلس الوزراء واستسهال التصرف بتوقيع الرئيس غير الموجود، إنما يقتل الوطن ويقضي على حقوق المواطنين. فبدلاً من التشدق والإعلان عن صون الودائع التي سرقها المؤتمنون عليها من الحاكم إلى أصحاب المصارف، أما كان حريّاً برئيس حكومة الأمر الواقع أن ينبري للدفاع عن العدالة وإحقاق الحق والشدّ على يد القضاة الشرفاء الذين يتولون ملاحقة الفاسدين وتطهير الجسم المصرفي والمالي من العفن الذي أصابه، بدلاً من إعاقة القضاء والإيعاز إلى وزير داخليته لعرقلة التحقيقات، من طريق الطلب من الضابطة العدلية عدم مرافقة مدعي عام جبل لبنان وعدم مواكبتها في عمليات الدهم والاستقصاء والتوقيف.
الدولة المدنية
في ظل هذا الواقع المأزوم والذي يزداد ضبابية يوماً بعد يوم، يزداد منسوب اليأس عند الناس حتى أن بعضهم قد يذهب مرغماً إلى الفدرلة، وتعود إلى أذهان البعض المطالب الانتحارية التي رفعها البعض إبان الحرب الأهلية والمتمثلة بالكانتونات والكيانات الطائفية، هذه المطالب التي ستؤدي حتماً إلى إطلاق رصاصة الرحمة على لبنان وما تبقى من لبنانيين. من هنا لا بد من التفكير برويّة والعمل بموضوعية لكي نستطيع جميعاً أن نسير بالبلد إلى شاطئ الأمان. وبغض النظر عن الاستحقاقات وأهمها الاستحقاق الرئاسي، الذي وبحسب البعض يسير وفق أجندات خارجية وسيناريوهات أحلاها مُرّ وهي لا تناسب اللبنانيين وطموحاتهم، لا بد لنا من أن نذهب جميعاً وفي أسرع وقت إلى إرساء الدولة المدنية بكل مندرجاتها. هذه الدولة التي نادى بها أبا التنوير المعلم بطرس البستاني بعيد أحداث الجبل في الأعوام 1840 1860 والتي نتج عنها دمار وخراب جبل لبنان.
إن إرساء الدولة المدنية هي وحدها الكفيلة بنزع فتيل الفتنة ووقف التعداد الطائفي ووضع أسس سليمة لتوحيد اللبنانيين عبر وضع قانون موحّد للأحوال الشخصية وفصل الدين كلياً عن الدولة، وإلغاء الطائفية ووضع قانون الزواج المدني الإلزامي، وأخيراً إعلاء وتطبيق المبدأ الذي نادى به المعلم بطرس البستاني والقائل «الدين للّه والوطن للجميع». عندها.. وعندها فقط يخلص لبنان ويخلص اللبنانيون.