
كتبت: كفا عبد الصمد
لن أحدثكم في السياسة، لهذا العالم قواديه الذين يتقنون فن الكذب والمتاجرة بأرواح الأبرياء وأحلامهم، ولن أحدثكم عن الحق الطبيعي لكل مخلوق على وجه البسيطة، لأن قدرنا العيش في زمن الأوغاد والحقوق المبتورة والقضايا المشوهة.. سأحدثكم عن دين يجمع بيننا، منذ أن وجدت الحياة على هذا الكوكب الملعون، وحتى زواله، دين ستبقى تُعزف موسيقاها الموحدة، مؤكدة أننا نتساوى رغم اختلافاتنا، نتساوى رغم خلافاتنا، نتساوى لأننا بشر، نؤمن بدين واحد لا ثاني له، دين الإنسان أولا وأخيرا.
ماذا يعني أن تسكن ذاكرتنا التي ثكلت من المناظر القاهرة، صورة رجل يحمل أبناءه أشلاء معبأة في أكياس صغيرة يسير بهم نحو الخلود، أو صورة شاب يحمل رضيعا وعينيه تحدق في اللامكان بحثا عن سراب، عن وهم، عن غصة توقف عقارب الزمان وتعيد الحياة الى ما كانت عليه رغم بؤسها.. ماذا يعني أن تملأ المكان صورة طفلين صغيرين تائهين، لا أب ولا أم ولا عائلة، عيون فارغة ونظرات حائرة وحياة انتهت قبل أن تبدأ.. ماذا تعني مقابر جماعية، وجثث متناثرة، وأشلاء وأصوات صامتة تحت الركام، ماذا يعني كل هذا في زمن العهر السياسي والطمع المادي والسلطة المتسلطة التي لا تعرف حدودا.. ماذا يعني التخاذل والارتهان والمكابرة على حقيقة صدقتها الأعين وكذبتها الألسن.. ماذا يعني غزة وما تمر به من محنة قاسية واختبار جبار وتجربة مدمرة…
آه غزة.. كم هو صعب ما يصيبك.. مؤلم شتاتك.. أهلك أصبحوا بقايا وأشلاء، وحياتك باتت رحلة يومية لموت مستعجل، وحلمك دفن رأسه في الرمال وصار نحو مجهول قاتم. ما يحدث لا يقبله عقل ولا يتصوره دين، ما يحدث يفوق قدرة البشر على الاحتمال، يهز عروشا ويزلزل سياسات ويقضي على إمبراطوريات، ما يحدث يطعن قانون الإنسانية في الصميم ويدمر ما تبقى من بقايا الإنسان في داخلنا.. ما يحصل، حزن.. غضب.. وانفجار..
آه غزة… خانتك الحناجر، وغدرك الزمان، ولدت قضيتك في زمن أنصاف الرجال، وأنصاف الحكام، قدرك الخيانة، وكلنا نخونك، ورجاؤك الصبر والتحمل.. لا يمكن لأي شخص يمتلك ذرة من الكرامة والمشاعر أن يسكت عما يحصل، لا يجوز أن تتحد سياسات العالم على كذبة واحدة، والأسوء أن نصدق كذبهم ونكذب ما تراه أعيننا..
اليوم جميعنا شهود، الحرب فيلم يجوز القول فيه، أميركي طويل، منقولة بالصوت والصورة، لا حرمة فيها تراعى ولا وجعا يدارى، عدسات تنقل الحقيقة رغم قساوتها، تتعالى على قوانين البشر في احترام حرمة الحزن، كي تنقل فظاعة الصورة الى عالم تحكمه أنصاف تغرق في ملذاتها الآنية، وتنام بين أحضان عاهراتها مستمتعة، غاشية، لا تحركها مجزرة ولا توقظها إبادة… صماء.. خرساء.. عمياء.. وحين تنطق تفضح كذبها لأنها تردد ما يراد له قوله لا ما تراه وتسمعه..
أتعبنا الحزن، ولا تقل أن ما يحدث لا يعنيك، إذا كنت إنسانا يجب أن يطالك شعورا ما حول ما يحدث في غزة، كلنا مسؤول، كبيرنا كما صغيرنا، نربي أطفالنا على سياسة الانبطاح للقائد الأقوى، لتكون النتيجة زمرة من الخونة تقبع في قصور بنتها على أنقاض أحلامنا وطموحاتنا، حكمت وتحكمت بمصائرنا وحين اعتدوا علينا جل ما قامت بفعله، استنكرت، شجبت وأكملت طريقها وكأن ما يحدث سحابة صيف عابرة، فكانت شريكة في الظلم والقتل والدمار..
لم نعد بحاجة إلى مظاهرات أو استنكارات أو حتى اعتراض، نحو بحاجة إلى ضوء ساطع يلمع في الأفق، يخبر الحقيقة ويعيد الينا شيئا من إنسانية بدأت تفقد روحها على أعتاب غطرسة السياسات العالمية وفجورها..
آه غزة.. كم هو ثقيل وقع مصابك حتى على الحروف والكلمات، الحزن يملأ الصدور واليد عاجزة عن فعل أي شيء، لعل الصلاة وحدها ما نملكه كأفراد يخفف عنا عبء ما نحمله من مسؤولية تجاه ما يحدث على أرضك، ويمنح ضحاياك شيئا من السلام..
أطفال غزة ليسوا بشهداء، لم يختاروا الشهادة ولا الولادة في أرض النزاع، جاؤوا الى هذا الحياة ليخبرونا أن الإنسانية التي نؤمن بها، هي نسبية وتفصل على قياس المصالح الشخصية والمطامع الدولية..
عذرا غزة.. لم نعد نملك سوى الانتظار علً رحمة السماء تحميك من فساد الأرض وقسوتها، وتعيد إلى أطفالك شئيا من الجمال…