كتب إلياس حرفوش في الشرق الأوسط:
مع كل حلقة من مسلسل القتل والتدمير الذي ترتكبه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، يعود السؤال ذاته ليفرض نفسه: ماذا بعد هذه الجثث المتفحمة والبيوت المهدمة؟ هل يمكن أن يؤدي سلوك هذه الطريق إلى إمكانية قيام حالة من السلام وقبول الآخر بين شعبي فلسطين وإسرائيل؟
ومع أن الجواب معروف، تتكرر حلقات القتل، ويتكرر الانتقام والرد على الانتقام، وتتصاعد أصوات التطرف من الجانبين، ويتآمر الإقصائيون والرافضون لدعوات التعقل والاعتدال على أصحاب التسويات. وفيما تُنتج إسرائيل خلفاء لرابين ويوسي بيلين من أمثال بن غفير وسموتريتش، تتكفل «حماس» بإبعاد «فتح» وقيادة السلطة عن واجهة العمل السياسي الفلسطيني. تطرف من هنا يُنجب تطرفاً من هناك.
كانت ضربة 7 أكتوبر (تشرين الأول) التي ارتكبتها «حماس» داخل إسرائيل قاسية بكل المعاني. وبعيداً عن روايات «الفظاعات»، التي لم يتوقف إعلام إسرائيل عن تكرارها، ولم يتردد مسؤولون غربيون في تبنيها من دون بحث عن إثباتات، فقد هزّت هذه الضربة ثقة الإسرائيليين بأمنهم وبجيشهم، وأكدت حاجة إسرائيل للاستعداد الدائم لحماية وجودها على الأرض التي استولت عليها قبل 75 سنة. في كل الحروب التي خاضتها الدولة العبرية كانت تخوض المعارك خارج حدودها، وباستثناء أكتوبر (تشرين الأول) الآخر عام 1973، كانت الحروب تنتهي بتوسّع الأرض وارتفاع أعداد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال. كما كانت تعزز شعور المقيمين داخل حدود الدولة بأن قوة جيشهم وقدرة استخباراتهم، والدعم الخارجي، الأميركي خصوصاً، الذي يتوفر لهم، ستكون كفيلة بحمايتهم من أي تهديد خارجي.
هذه المرة كان الأمر مختلفاً. ظهر أن الجيش «الذي لا يُقهَر» تخلّف عن حماية مواطنيه، فيما كانوا يتعرضون لهجمات «حماس». وظهر أن تقارير الاستخبارات عن خطط «حماس» كانت قراءات خاطئة لما تعدّه هذه الحركة على الجانب الآخر من الحدود. وظهر أن الأسلحة والأموال الأميركية لا تستطيع وحدها أن تحمي «حق إسرائيل في الوجود»، إذا ظلت مسألة احتلال الأرض وقهر الشعب من دون حل. لذلك جاء الدعم الوحيد الذي حصلت عليه إسرائيل بعد هجمات «حماس» من قوى خارجية كانت في الأساس وراء حماية وجودها في المنطقة، فيما وقف جيرانها العرب الموقف الطبيعي الذي يُدين ارتكابات «حماس» والاعتداء على المدنيين، لكنه يتفهم الأسباب التي تدفع إلى أعمال المقاومة التي تقوم بها التنظيمات الفلسطينية، وعلى رأس هذه الأسباب الطريق المقفل أمام أي حل سياسي يسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وسيادتهم على أرضهم، ويُخرجهم من حالة اللجوء والتهجير التي يعانون منها على مدى عقود.
في وجه انهيار المعنويات الذي خلّفته ضربة «حماس»، لجأ المتطرفون في حكومة نتنياهو إلى أسلوب القتل المفرط وتعميم الدمار في قطاع غزة. تحوّل الحقد إلى صواريخ وقذائف نشرت الخراب والمجازر في أنحاء القطاع المحاصَر. ورافقت ذلك حملة عنصرية على ألسنة مسؤولين كبار في حكومة نتنياهو وقادتها العسكريين ضد الفلسطينيين. وزير الدفاع وجد أنهم «حيوانات بشرية»، ورئيسه هرتسوغ قال إنه لا يوجد مدنيون أبرياء في قطاع غزة. وزير المال سموتريتش عاد إلى كتب التاريخ فوجد ما يؤكد له أن الشعب الفلسطيني «اختراع» عمره أقل من مائة سنة. لا تاريخ لهم أو ثقافة. لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني.
أما أحد قادة الجيش فهدد أبناء القطاع بأنه لن تبقى لهم بنايات، بل فقط خيام للجوء. فالخيام في نظره هي أكثر ما يستحقه هؤلاء الذين يتجرأون على القوة الإسرائيلية.
وتبلغ هذه النظرة العنصرية مداها عندما يتعلق الأمر بسياسة الانتقام. ففي مقابل 1400 من القتلى الذين تقول إسرائيل إنهم سقطوا في هجوم «حماس» يكون الثمن (حتى الآن) ما لا يقل عن 3500 قتيل فلسطيني ثلثهم من الأطفال والنساء ونحو عشرة آلاف جريح، إضافةً إلى حملة التهجير وهدم البيوت، بحيث يبدو قطاع غزة كأنه تعرض لزلزال مدمّر. فيما لا يزال موعوداً بدمار أكبر، لأن الآتي على أبناء القطاع أكبر مما تعرضوا له حتى الآن، كما يبشرهم نتنياهو.
المؤسف أنه وسط هذا الخراب والأفق المسدود، لم تجد إسرائيل بين الدول التي تعلن صداقتها مَن يقدّم نصيحة وسط سيل التعاطف والتعازي وحملات التضامن. نصيحة من نوع أن من يزرع الريح يحصد العاصفة. ومن يأتي بالمتعصبين والمتطرفين والداعين إلى توسيع الاستيطان وتهجير أصحاب البيوت من أرضهم لا يمكنه أن ينتظر من الجانب المقابل يداً ممدودة للسلام.
لم يكن الأمر بحاجة إلى كثير من القدرات الاستخباراتية ليدرك المرء أن الغليان الذي كان يغذّيه المتطرفون الذين جاء بهم نتنياهو إلى حكومته لإنقاذه من ورطاته القضائية سوف يؤدي إلى انفجار. الحكومات الغربية كانت تتوقع ذلك. وإدارة الرئيس بايدن التي زعمت أنها غير راضية عن سلوك نتنياهو وحكومته، عمدت إلى التصويت بالفيتو على قرار في مجلس الأمن في مطلع هذا العام يدعو إسرائيل إلى التوقف عن نشر المستوطنات في الضفة الغربية. وكل ذلك في تجاهل كامل للشرعية الدولية ولحقوق الفلسطينيين الذين تتآكل أرضهم بالمستوطنات أمام عيونهم.
ثم كانت زيارة التعاطف الأخيرة التي قام بها الرئيس بايدن إلى إسرائيل، والتي كان يؤمِّل أن يكون فيها أكثر وضوحاً في مطالبة نتنياهو باحترام حقوق الفلسطينيين وبالعودة إلى التسوية القائمة على حل الدولتين، كما كان واضحاً في إدانة عمليات «حماس».
كان يؤمِّل أن يتذكر أصدقاء إسرائيل الذين تهافتوا على دعمها ومواساتها بعد هجمات «حماس» أن تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لم يبدأ في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأن سوابق المآسي الماضية والمأساة الحاضرة، التي يعانيها شعبا فلسطين وإسرائيل سوف تؤسس لما هو أشد هولاً، ما دام الظلم والقهر وسياسة البطش هي المعتمَدة في وجه مطالبة الفلسطينيين بالحصول على حقوقهم، التي بدأ حرمانهم منها منذ 75 سنة.