
كتبت: كفا عبد الصمد
يبقى لكل زمن قساوته وسلطانه المدمر ومجازره البشعة، وإن كان قدرنا أن شهد على المذبحة اليومية التي تغتال الشعب الفلسطيني وتنتهك حقه في الأرض والحياة والبقاء، هذا لا يمنع أن لكل زمان حروبه ولكل حقبة مجازرها، وقد علمنا التاريخ أن الحياة لا تتقوف عند قوة معينة ومن نُصب سلطانا اليوم سيأتي وقتا يتحول فيه الى متسول حرية وهكذا دواليك تدور رحى الحياة، وسيأتي يوما نخبر فيه (من كتبت له الحياة)، أحفادنا عن شعب تخلى عنه الجميع وبقي صامدا مقاوما، باحثا عن حرية داخل قضبان سجن فولاذي يحكمه سجان فاشي لا يعرف للرحمة عنوانا.. وسط كل هذه الضبابية ومشاهد العنف والقتل والإجرام، استوقفتني إرادة الشعب الفلسطيني، سواء كنت معه أو ضده، لا يمكنك أن تتجاهل قدرة هذا الشعب الجبار على تحدي الموت واختيار الحياة، وقد تجلت هذه الإرادة بصور كثيرة، لكن أكثر المشاهد التي تضحكك وتبكيك في وقت، مشهد انتشار العربات التي تجرها الحمير ويُنقل بها المصابين والشهداء الى المستشفيات..
في صميم الألم والضياع والتهجير ورغم الحصار وقساوة مشاهد القتل والاغتيال، اغتيال سياسي ومعنوي ونفسي، جاءت فكرة إعادة استخدام الحمير بما يتناسب والمرحلة الراهنة.. إن الحاجة ام الاختراع، من يخطر بباله أننا في القرن الواحد والعشرون العالم تركب السيارات الكهربائية وتستخدم المركبات الفضائية تاكسي يوصلها الى القمر، هناك من فكر في إعادة اعتبار الحمار ومنحه الدور الأول والاهم له في هذه الحياة ومنذ بداية التكوين. أستعاد الحمار هيبته نحن من نهزأ منه ونقلل من احترامه..
إن العظمة في الفكرة بحد ذاتها، وهذا وإن دل على شيء إنما يدل على رغبة هذا الشعب في الحياة، وكأن ما يحدث لهم وما يعيشونه من نكبة وإبادة ما هي الا مرحلة مخاض وستنتهي لتأتي من بعدها الولادة الحقيقية، وفي لحظة المخاض الفكرة الأنسب هي الفكرة الأنجح، وبالتالي إذا كان الحمار سيسد ثغرة ويملأ الفراغ، اهلا به، شريكا في مواجهة الحصار والتغلب على الأحداث والتصدي للأزمات..
يبدو من السهل كتابة هذه الكلمات ورص الحروف لنقل الأفكار التي تدور في داخلنا لكن هذا لا يلغي حقيقة تبدأ من فكرة استخدام الحمار وسيلة نقل، ولا تنتهي بفكرة التصالح مع الموت وتقبل الشهادة لأطفال لم يعرفوا غيرها وسيلة للعبور الى حياة حقيقية..
قد يهزم العدو مريضا بقصفه المستشفى التي يتعالج بها، أو يطال لاجئا في قصف مدرسة يحتمي فيها، أو يسقط جامعا أو كنيسة تحاول آياته وتراتيله حماية من هربوا من الموت بالصدفة، لكن كيف له أن يهزم ضحكة طفل اختبر الموت في سن صغيرة واختار الحياة، كيف يهزم شاب عصره الحصار وطحنه الظلمـ ولا زال يبحث عن بقعة ضوء وسط الظلام، كيف ينال العدو من شخص لم يخيفه الحصار ولم يغلبه عدم وصول الوقود والمؤن والمياه ووجد بديل سريع ومجدي في رحلة بحثه عن الحياة..
يبدو من الصعب فهم أبجدية هذه الفئة من البشر الذين وقفوا في وجه العاصفة بصدورهم العارية، ورغم كل الخيانة التي تحيطهم لا زال بيرق الامل يلمع في الأفق، وفي حضرة الحمار لن يترددوا في إيجاد وسيلة تعزز صمودهم في هذه المرحلة قبل الانتقال الى الأمان الحقيقي..
عذرا أيها الحمار قد اخفقنا في تقديرك واحترامك، قدمت لنا ما عجز عن تقديمه عظماء امتنا المتهالكة، واعذرهم فقد اغشى الطمع عيونهم، وما عادت دماء فلسطين تعنيهم ولا صرخات غزة تهز رجولتهم الكاذبة.. عذرا أيها الحمار في قلب الازمات كنت خير معين وقمت بدورك على اكمل وجه. نحيي انتماءك الى الأرض ونقدر وقوفك الى جانبنا في مثل هذه الظروف الصعبة، وأنا على يقين أنه لو كان بالإمكان ان تفعل أكثر لما ترددت لأن فيك من الإنسانية أكثر بكثير مما يملكه كثيرين..
صدق القول وقت الضيق الحمار بألف صديق…