كتبت سناء الجاك في صحيفة نداء الوطن:
كانت أعلام لبنانية صغيرة توزعها وزارة التربية على المدارس الرسمية والخاصة قبل يوم 22 تشرين الثاني، وكان التلاميذ يصطفون في الملعب ويلوحون بها وينشدون بكل حناجرهم: كلنا للوطن للعلى للعلم.
وكان يلي الاحتفال يوم عطلة يميزه البث التلفزيوني الطويل في الصباح الباكر، قبل الفضائيات والصحون اللاقطة، وكاميرات تنقل من ساحة الشهداء استعراض الجيش اللبناني بعيد الاستقلال وبحضور كثيف لممثلي الدولة والشعب وهيبة وافتخار، لتنتقل الكاميرات بعد الاستعراض إلى قصر بعبدا مع استقبالات رئيس الجمهورية للمهنئين في العيد. وكنا نتفرج ونتعرف إلى الوجوه والأيدي التي تصافح الرؤساء الثلاثة، ونشعر بالعيد في أعماقنا.
كان يا ما كان… كان بلد واقتصاد وحركة فكرية كلها بركة، بعيدة كل البعد عن مرتكزات بث الكراهية، والتخوين، واستباحة الاعناق، والأرزاق. وفيه تناقضات غنية، ولا تطرف.
لم يكن هناك عالم افتراضي وصفحات تُفتح لجيوش الكترونية حاقدة، لا تتوانى عن التعليق على جريمة ما بالتشفي من الضحايا وممن يتألمون لفظاعة اغتيالهم.
كان للموت حرمة تجمع الخصوم. والأهم كان للحياة حرمة أين لبنان منها اليوم؟
اليوم، تطل ذكرى الاستقلال في ظل انهيار بشع للحرمات والقيم التي تصنع إنساناً قادراً على صناعة وطن. إنسان لا يرد على تغريدة لفارس سعيد عن صديقه الشهيد بيار الجميل في ذكرى اغتياله، بعبارة: «عقبال ما تلحقو ابو الفوارس»، بتوقيع «ابن الجنوب». أو «ان شاء الله بتلحقو ع جهنم»، بلسان «أبو علي».
فلا قيامة لوطن أو لدولة ومؤسسات بمجرد التفكير بأنّ هناك لبنانيين منفصلين تماماً عن الحس الإنساني، وبأنهم قادرون على تبرير القتل، أو حتى الاعتداء والتخوين والتهديد والتهويل، حيال ما ترتكبه «جماعتهم» سواء بسبب مواقف سياسية لمن تسقط ورقته من لوائح رأس الممانعة وأذرعها، أو لخلاف ما بشأن نفوذ أو سيطرة على منطقة، أو إنقاذ شاحنة أسلحة على كوع الكحالة.
فالحس الإنساني لا يكون انتقائياً، يتفاعل ويستنهض «المقاومة» ويستبيح السيادة والأمان لمواطنين عُزَّل استنكاراً لجرائم ترتكب بحق أطفال غزة، ويتجاهل ويبرر الجرائم التي ارتكبت بحق أطفال الغوطة لدى استخدام النظام الأسدي غاز السارين وقتل أكثر من ألف شخص، ولا حس انسانياً لدى من يتجاهل استخدام البراميل المتفجرة المحشوة بأطنان من نيترات الأمونيوم لإبادة الشعب السوري، وذلك بعد شحن هذه المواد إلى مرفأ بيروت، الذي انفجر بدوره حاصداً مئات الضحايا. وممنوع على ذويهم ومحبيهم المطالبة بكشف ما حصل وإحقاق العدالة، لتبقى الحقيقة مجهولة وتشكل علامة استفهام كبيرة بشأن مسؤولية العدو الصهيوني عن هذه الجريمة.
فما كان لن يعود ما دمنا ضحايا هذه المعادلات الاستنسابية لمفهوم الاجرام. ولا يمكن استعادة حقوق أهل غزة او إيجاد حلول للقضية الفلسطينية، ما دام أفق كل ما يحصل من فظائع ترتكبها آلة القتل الإسرائيلية هو صفقة تبادل أسرى. وتوصل إلى وقف إطلاق النار، وإعلان انتصارات في عواصم الاحتلال الإيراني من صنعاء إلى بغداد ودمشق وبيروت، ولو على ركام غزة التي دفنت أولادها من دون تشييع.
ولا أمل لاستعادة الاستقلال إلا بزوال الاحتلال، أياً تكن هوية المحتل، لأنّ الولاء سيبقى له وليس لبلد منتهكة سيادته ومصادرة مؤسساته ومفلسة خزينته فقط لتحقيق مشاريعه، ويهدف إلى ابتزاز المجتمع الدولي بورقة إضافية تضاف إلى أوراق الدول المنكوبة بأذرع الممانعة.
حينها يحكي اللبنانيون لصغارهم أنّ لبنان كان محتلاً، إلا أنّ الشعب تمكن من توحيد جهوده لإخراجه، ومن ثم بناء دولة، ومؤسسات، وفق الدستور، والقوانين. وكان يا ما كان…