سلايداتمقالات

ثقافة شعب..

كتبت: كفا عبد الصمد
منذ السابع من تشرين الأول أكتوبر، ونحن نسرق الوقت كي نتابع تفاصيل ما يحدث، نسمع تحليلات سياسية، ونصغي لتصريحات، وننهزم أمام صور، لأننا جزء من هذا الصراع، وحتى لو لم نكن نريد، نحن كذلك فعلا، وإسرائيل شوكة في خاصرة العرب منذ بداية تكوينها وستبقى حتى زوالها، ولا يمكن أن تعرف منطقتنا الهدوء ما لم تكتب خارطة جديدة سياسية اكثر مما هي جغرافية، تعيد ترتيب الأوراق في هذا الشرق المتأزم، لتكون بداية فصل جديد من صراع على نحو مختلف..
وسط هذه الضوضاء، لا اعتقد أحدا لم يتابع عملية تبادل الاسرى، من باب الحشرية او الصدفة أو حتى الاهتمام في متابعة القضية الفلسطينية، وهذه الصورة المتحضرة التي نقلتها إسرائيل الى كيفية تعاملها مع الاسرى المحررين، وحجز أماكن لهم داخل مستشفيات متخصصة مع متابعة نفسية وطبية وصحية، تتناسب والحالات التي تم تحريرها، كانت لتكون مثالية لو لم تقطف بريقها صورة جنود القسام وهم يودعون الاسرى بكثير من الترحاب والمودة، وكأن الأيام التي أمضوها معا ستكون كفيلة برسم ملامح جديدة لعلاقة مختلفة ما كانت لتكون بين أي عربي أو فلسطيني واسرائيلي.. وكانت قد سبقت هذه الصورة فيديوهات سربت عن معاملة شباب كتائب القسام لأطفال تم اعتقالهم، ومدى الاهتمام بهم وتزويدهم بما يحتاجونه، وكانت لافتة صورة أحدهم يطعم رضيعا الحليب وهو يحضنه بكثير من الحب والاحترام في الوقت الذي تقتل فيه السلطات الاسرائيلية أطفال غزة، تلحق بهم الى المستشفيات والمدارس ومراكز الايواء كي تنكل ببراءتهم وتسلبهم الحق في الحياة، بإجرام ووحشية لم يعرفها تاريخ من قبل.
لم ينجح العدو الإسرائيلي في تببيض صورته كما يفعل دائما، وحقيقة انه المعتدي التي حاول اخفاءها لسنوات، وأنه الضحية، وهناك من ينتهك عرضه وأرضه، وأن بقاءه في فلسطين هو رسالة سماوية نذر لتحقيقها، أرض الميعاد، هذه الخرافة لم تعد قابلة للتصديق، اعتدنا اجرامه وتعرف العالم -أخيرا- على الوجه الآخر والحقيقي لوحشيته، وما حاولوا نقله من صورة تبرز رقيهم وتطورهم وأنهم من الشعوب المتحضرة، امحتها بكبسة زر صورة المحررة الإسرائيلية وهي تودع الجندي الذي اختطفها بكثير من الطمأنينة والثقة، وقضت عليها صور الاسرى المحررين من الجهتين، كيف بدا من تعاملت معهم قوات حماس وكتائب القسام وبين من وقع في شرك الاجرام الإسرائيلي وخرج بعد سنوات من الاعتقال والتعذيب وانتهاك ادنى الحقوق الإنسانيةـ مجرد حلم تبعثر على عتبة الاعتقاد وبقايا عزيمة رفضت الاستسلام…
هي ليست مقارنة، حيث لا تجوز المقارنة أصلا لكن الصورة نطقت، وعبرت عن ذاتها بذاتها دون منية من أحد، وجعلت العالم يتكلم عن حقيقة كان رافضا تصديقها، لأن غشاوة عينية منعته من فهم الصورة واكتشاف حقيقة ما يحدث.. الأمر أبسط مما تتصورون إنها ثقافة شعب لا أكثر، ثقافة تعكس طريقة تفكير هذا وذاك، لا تحتاج الى كثير من الشرح أو التعبير، ولا تحتاج الإنسانية الى قواميس لحل طلاميسها، هي تخلق بالفطرة وتنميها الممارسات الاجتماعية، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه سيكون من الصعب علينا التوقع من الإسرائيلي أن يعاملنا بشيء من الإنسانية اذا كان يمرس شراسته واجرامه على أبناء قومه فكيف الحال مع العربي الذي ورغم انبطاحه أمام سياسته المستبدة لكنه لم ينجح في جعله يتعامل معه كند، لأنه لا يؤمن أصلا بإنسانية خارج حدود نجمته المسدسة وباستنسابية واضحة.
لا يهم كيف يكون موقفك من القضية الفلسطينية، وحتى لو آمنت بأنه شعب خذل نفسه قبل أن يخذله العالم، لا بد وأن تعترف أنه يملك من الإنسانية نبالة تصدمك بعد كل ما تعرض له منذ أكثر من سبعة عقود..
حرب غزة استنزفت طاقاتنا ولغتنا وعباراتنا، وأدخلتنا في صراع لن نعرف كيف ومتى وأين سينتهي، لكنها أيضا بدلت المعادلة ونقلت صورة مختلفة لإسرائيل الدولة التي تدعي المدنية والتحضر، وكشفت النقاب عن اجرام اعتدناه منذ بداية تكوين هذا الكيان لكنه يشتد اجراما كلما زاد الخناق حول عنقه..
نحن نكتب ونستفيض، وهناك ارض منكوبة، محروقة، جريحة، تملؤها بقايا جثث، وتنتشر فيها رائحة الموت، وهناك أطفال تبكي أهلها وأمهات تبكي أولادها وعائلات ابديت، وسجلات أقفلت وبقايا حلم تناثر في الأجواء.. هناك من يعيش حياة محكومة بموت محتم، لكنه ما زال قادرا على زرع الطمأنينة في نفس أي شخص يصادفه حتى لو كان أسيرا.. انها ثقافة شعب لا تمنح ولا تكتسب..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى