
كتب طوني عيسى:
إذا بقيت الضربات الإسرائيلية ضمن إطار “الاستنزاف المُدار” وتدمير البنى التحتية “التي يمكن تعويضها”، فإنّ صمت “الحزب” سيستمرّ طويلًا. وعلى الأرجح، سينتظر “الحزب” لحظة “المعركة الكبرى” لكي يرتدي مجدّدًا ثياب القتال.
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
إنّها لعبة أعصاب، تلك التي تدور على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. ففيما الجيش اللبناني يواجه مأزقًا لوجستيًا في تدمير مخازن “الحزب” بـ”العبوات الناسفة الأميركية”، وفق ما أعلن مسؤولون لبنانيون لوكالة “رويترز” قبل يومَيْن، فإنّ “حزب الله” نفسه يواجه مأزقًا استراتيجيًا في الردّ على ضربات إسرائيل التي تتمادى يوميًا، وتكبّده الكثير من المقاتلين والكوادر، بلا أي حسيب أو رقيب.
الواضح أنّ قرار القيادة الحزبية هو الآتي: لا ردّ على إسرائيل حتى إشعار آخر، مهما قَسَت الضربات. وعلى الأرجح، ليس الصمت الحالي مجرّد “ضبط للنفس” كما قيل دائمًا، بل هو أيضًا قرار إيراني مركزي. فـ”حزب الله” ليس اليوم مجرّد تنظيم لبناني مسلّح، بل هو آخر خط دفاعي لإيران على ساحل المتوسط، بعد سقوط نظام الأسد، ولا يمكنها أن تغامر به وتخسره، فيما هي في أمَسّ الحاجة إليه لتنفيذ أجندتها الكبرى في الإقليم.
قرّر “حزب الله ابتلاع الضربات” الإسرائيلية بصمتٍ وهدوءٍ، لأنّ المكاسب التي يمكن أن يحقّقها في أي ردّ لا قيمة لها في مقابل التكلفة المريعة التي سيتكبّدها في حال التصعيد الشامل. فقرار الصمت هنا يأتي نتيجة حسابات استراتيجية باردة تفرضها عوامل رئيسية، أولها التكلفة الاقتصادية والمغامرة بوجوده. فـ”الحزب” يُدرك جيدًا أن أي ردّ عسكري كبير اليوم سيؤدّي مباشرةً إلى انفجار حرب إسرائيلية شاملة عليه وعلى لبنان، قد لا تقتصر فيها الضربات على المواقع العسكرية، فتشمل بنى تحتيّة حيوية ومناطق مدنية خارج الجنوب، أي في بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع. ويجدر التذكير هنا بأنّ ثمة أصواتًا في داخل “الحزب” ترفض أن يكون هو ولبنان “كبش فداء” في مواجهة إقليمية متهوّرة، مع التنويه بأنّ خسارة ما تبقّى من الدولة اللبنانية تعني أيضًا خسارة البيئة الحاضنة لـ”الحزب” المُنهكة أصلًا. كما أنّ انزلاق لبنان إلى حرب، بدعمٍ من طهران، سيدفع العرب إلى تجميد أي دعم اقتصادي أو استثماري للبنان.
إذًا، يُفضّل “حزب الله” ابتلاع الخسارات الصغيرة، كتدمير المخازن أو القواعد أو اغتيال المقاتلين أو الكوادر، على الدخول في عملية ردّ كبرى تنزلق إلى تصعيدٍ يستحيل احتواؤه. ويمارس “الحزب” سياسة “الاستنزاف المُدار” لئلا يُعرِّض “رأس المال الاستراتيجي” للخطر. وهو يفضّل أن يحتفظ بأوراق قوته للمعركة الكبرى التي تندرج ضمن الأجندة الإيرانية العليا، ولا تكون مجرّد “معارك يومية” تفرض إسرائيل توقيتها وظروفها.
واليوم، تُدرك قيادة “الحزب” أنّ هناك فرصة أخيرة تُمنح للبنان عبر الوساطة المصرية. وأي ردّ عنيف بالتزامن معها سيعني تخريبًا مباشرًا للمبادرة التي قد تكون الوحيدة القادرة على تأمين مخرجٍ لائقٍ لـ”الحزب” يُجنّبه الحرب. وبالتأكيد، إيران نفسها تدعم الجهود المصرية.
في الموازاة، يتردّد كلام في بعض الأوساط عن تفاهمات محتملة، غير مكتوبة، بين واشنطن و”حزب الله” عبر وسطاء أوروبيين وعرب، وخلاصتها ما يأتي: “ما دام “الحزب” لا يردّ على الضربات، فلن تكون هناك حرب شاملة. ولكن، في أي حال، عمليات إسرائيل لا تتوقف”.
إذًا، متى سيردّ “حزب الله”؟
إنّ صمته يشير إلى أنّه يشتري وقتًا ثمينًا لإعادة تقويم مسار الحرب. وأمّا ردّه فسيأتي فقط إذا تجاوزت إسرائيل “الخط الأحمر” الاستراتيجي، كاغتيال شخصيات قيادية أو التوغّل العسكري “غير المتوقع” واحتلال مناطق واسعة جنوب الليطاني، أو ضرب مخازن الصواريخ النوعية بشكلٍ مكثّفٍ في مناطق لم تُستهدف سابقًا. وأمّا إذا بقيت الضربات الإسرائيلية ضمن إطار “الاستنزاف المُدار” وتدمير البنى التحتية “التي يمكن تعويضها”، فإنّ صمته سيستمرّ طويلًا. وعلى الأرجح، سينتظر “حزب الله” لحظة “المعركة الكبرى” لكي يرتدي مجدّدًا ثياب القتال. لكنّه يعتقد اليوم أنّ أوان هذه المعركة لم يحنْ بعد.




