
كتبت: كفا عبد الصمد
عندما نطالع رواية وتكثر فيها القصص الحزينة والمأساوية، غالبا ما نغلق الكتاب، ونطوي صفحاته، ونهرب الى متابعة بعض الاعمال الكوميدية أو الاستماع الى الموسيقى ومنحها فرصة اخراجنا من الكآبة التي أدخلتنا في سراديبها شخصيات رواية لم نوفق في اختيارها. لكن عندما تعايش مأساة شخص تحول من مجرد موظف يقوم بعمله بمصداقية ومثابرة، إلى حدث يتصدر العناوين ونشرات الأخبار، تحاول الهروب إلى وصلات ترفيهية لكن شبح مأساته يطاردك، وتشعر بأنه بات جزء من عالمك، تفكر فيه رغم أنك لا تعرفه ولم تجتمع به يوما.
حين كنت أستمع الى رسائل وائل الدحدوح، كان يشدني ثبات وقفته، وسلاسة الفاظه ونطقه الصحيح ومخارج حروفه الواضحة، ولا ادعي أني كنت من متابعيه لأني أصلا تعرفت عليه من خلال أحداث غزة الأخيرة، لكن وقفته لإتمام رسالته المهنية بعد دقائق من دفن أفراد عائلته، وإصراره على المتابعة رغم تعرضه للإصابة، وصلابته في تقبل الموت والتعامل مع الحرب وكأنها طوق نجاة للعبور الى حرية حتمية، جعلتني انتظر رسائله والبحث بين حروفه عن أي إشارة تدل على شيء من الانكسار لرجل خسر ما لا يمكن لبشر أن يتحمله، زوجته أبنه وحفيده، واعتقدت يومها أن حساب الآخرة وقع عليه ولم يعد هناك ما قد يحاسب عليه حتى لو عاش مئة عام وتوالت عليه مئات الأجيال. لكن هذا لم يكن كل شيء، بل الصورة تكررت ووقف وائل دحدوح بسترته الصحافية وارادته القوية وقناعته الدائمة بأن الشهادة عبور الى حياة أفضل، ليدفن ابنه، أمسك بيده، حاول فرك اصابيعه عله يعيد اليها الحياة، قبل جسده البارد، ووقف يقول كلمة حق في فلذة كبده، ليعود ويكمل مسيرته في مهنة البحث عن المتاعب.
صغرت الدنيا في عيوني، وشعرت بسخافة المشاكل التي نعيشها، قد نغضب ونكفر اذا لم نحقق شيئا بسيطا وسطحيا نصبو الى تحقيقه، أو نذرف دموعا على كلمة قيلت لنا، أو موقف تعرضنا له، ونعيش حالة الرفض لكل ما نملكه من نعم، ونلعن حظنا في اليوم الف مرة، لكن في النهاية حين يسدل الليل ستاره، نتلحف بحب عائلتنا، وننام في اسرتنا، وحولنا قلوب نابضة ومحبة تملأ حياتنا سعادة وفرح، ورغم ذلك نتذمر!
تُرى كيف نام وائل ليلته امس، بمن تلحف وهو لم يعد لديه شيئا، لا عائلة لا وطنا لا مسكنا ولا حتى إحساسا بالألم، لا شك أنه تخاوى مع الألم الى حدود لا متناهية، يذرف الدمع، ويخفي خلف غصة حلقه آهات تريد أن تصدح في سماء الكون، لكنه في الواقع، خاوى الألم، الم الفراق، وارتقى الى مرحلة من القداسة الإنسانية لا يعرفها كثيرون، بات صديق الذكرى يعيش على صور لزوجته وابنه وحفيده، مجرد صور ولقاءات كانت يوم كانت الدنيا تنبض بضحكاتهم.
وائل دحدوح هل تحولت بشخصك الى غزة، الى الضفة، الى فلسطين، هل أصبحت القضية وبات من حقنا عليك أن نرفع صوتنا أكثر علّ القصف العشوائي يخطئك ويحوم بعيدا عن عالمك الذي بات مسكونا بالموت والفراق.
بماذا نواسيك، وماذا نقول لك، واي كلام يعزي في مثل حالتك، لا اعرف ان كنت تملك املا للمستقبل بعد، لكن أملك الوحيد بأن تستعيد أرضك كي لا تكون دماء عائلتك ذهبت هباء، وأن تكون وعائلتك وقود اتفاقيات تمنع زهر البيلسان من التفتح مجددا على أرض فلسطين.
ليزرع الله في قلبك صبرا وايمانا وقبولا حتى تتمكن من اكمال حياتك بأقل الأضرار الممكنة، وأتمنى عليك أن تتوقف عن العمل، خذ إجازة وارحل بعيدا استجمع قواك، اذا استطعت الى ذلك سبيلا، وحين تتحرر الأرض، ارجع الى تراب غزة المروية بدماء عائلتك، واخبرهم عن يوم كانوا فيه ورحلوا وحولوا وائل الدحدوح الى حدث وصورته الى رسالة ناجت الإنسانية يوم فقدت فيها الإنسانية، وصوته الثابت رغم اختناقه الى قوة وصلابة ان دلت على شيء انما تدل على رجل يبحث فوق أشلاء عائلته عن بقايا حياة يمنحها لمن بقي في قلبه نبض.
وائل الدحدوح جبل من الصمود ورجل حقيقي في زمن قلت فيه الرجال وكثر فيه الإجرام، ليعبر السلام الى قلبك علك تستعيد لحظة من السكون في غفلة من حرب يبدو أنك العدو الأوحد فيها..