كتب أيمن جزيني في أساس ميديا:
أبدع المبعوث الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب، قبل عقود، في معاينته طبيعة الصراع الذي تخوضه إسرائيل ضدّ الجميع. عبقريّته السياسية لمعت في مطلع الثمانينيات يوم جاء إلى بيروت ليخرج المنطقة من جحيم النار الإسرائيلية، وليخرج أيضاً منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
تجاوز الرجل حينها القراءات السياسية لطبيعة الصراع وذهب إلى ما هو أبعد. بدا أنّه مثقّف في السياسة فقال عن الحرب الإسرائيلية في حينها: “إنّها حرب موسى وعيسى ومحمد”. قالها وأصاب في ما قال. ما يجري الآن في المنطقة والإقليم، هو بغالبيّته الغالبة عبارة عن حروب دينية. وما يحصل حالياً هو حرب تعيد لتفكير “الأمّة” الأولوية على عقل “الدولة الوطنية”.
أبدع المبعوث الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب، قبل عقود، في معاينته طبيعة الصراع الذي تخوضه إسرائيل ضدّ الجميع. عبقريّته السياسية لمعت في مطلع الثمانينيات يوم جاء إلى بيروت ليخرج المنطقة من جحيم النار الإسرائيلية
خريطة الحرب وأبطالها
في فلسطين هناك إسرائيل الدولة اليهودية تشنّ حرباً على حركة حماس الأصولية الإخوانية. وفي لبنان على الحزب الأصولي الشيعي. على الخطّ تدخل الميليشيات العراقية، أو ميليشيات الحشد الشعبي، الأصولية الشيعية، وجماعة الحوثيين الأصولية الزيدية التي تنحو رويداً رويداً نحو التشيّع الاثني عشري بعدما كانت الأقرب إلى الشافعية.
خلف هؤلاء تقف إيران الدولة الاثنا عشرية وعلى رأسها الوليّ الفقيه السيد علي خامنئي. على المقلب الآخر تتحيّن تركيا فرصها، تركيا الدولة السنّية “المعتدلة” التي يقودها الخليفة العثماني الجديد رجب طيب إردوغان بحزبه “العدالة والتنمية” الحاكم.
حبر كثير ودم أكثر
سال حبر كثير حول عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة حماس على غلاف غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أكثر منه الحبر الذي سال ويسيل حول حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ ذلك اليوم أيضاً.
لم يبقَ مواطن عربي إلا وأدلى بدلوه في الحدثين، سواء عبر الصحف والمجلّات ووسائل الإعلام التقليدية، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر رفع علم فلسطين على الشرفات وفوق السيارات وفي الأماكن العامّة أو الساحات، أو عبر المشاركة في التظاهرات الحاشدة التي عمّت وتعمّ مدن الوطن العربي كبيرتها وصغيرتها.
ما يجري في غزة لا تحيط به معاجم اللغات كلّها في هذا العالم. ما جرى ويجري يحتاج إلى لغات جديدة لتتمّ الإحاطة به. أبعد من ذلك، ستبقى أسرار وألغاز ما جرى ويجري طيّ الكتمان، وطيّ العتمة لعقود كثيرة، بل لقرون
توصيفات لا حدّ لها
لم يبق إنسان على سطح الكوكب إلا وخاض غمار القول في ما يجري، سواء كان مؤيّداً أو معارضاً:
ـ “عملية فريدة من نوعها”، “لم يسبق لها مثيل”، “عملية فلسطينية خالصة”، “عملية إيرانية”، “عملية روسية”… إلخ. “عملية غيّرت وجه الصراع العربي الإسرائيلي”، “ما بعدها لن يكون كما قبلها”، “أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي”، “أعادت الصراع العربي الإسرائيلي إلى نقطة انطلاقه”… هذا حول عملية “طوفان الأقصى”.
ـ أمّا عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فقيل الكثير: “حرب إبادة”، “حرب وحشية”، “حرب وجودية”، “حبل مشنقة يلتفّ حول رقبة إسرائيل”، “محرقة إسرائيلية” وغيرها الكثير من التوصيفات.
ما يجري في غزة لا تحيط به معاجم اللغات كلّها في هذا العالم. ما جرى ويجري يحتاج إلى لغات جديدة لتتمّ الإحاطة به. أبعد من ذلك، ستبقى أسرار وألغاز ما جرى ويجري طيّ الكتمان، وطيّ العتمة لعقود كثيرة، بل لقرون.
نقطة آخر السطر أو المرحلة؟
ما قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر هو حدث في مسار طويل، بل في مسارات طويلة، قد تكون على الأغلب هزيمة عام 1967 نقطة انطلاقتها، وقد تكون نكسة عام 1948 حجر زاويتها.
ثمّة تباين كبير حول نقطة الانطلاق الفعليّة، إلا أنّ سبعينيات القرن الماضي بما حملته من أحداث جسام وتحوّلات خطيرة ومفصلية لا شكّ في أنّها هي الرافد الرئيس إن لم تكن نقطة الانطلاق الفعلية لما جرى خلال العقود الماضية ولا يزال يجري حتى لحظتنا الراهنة. حدث هذا تحت سطوة أحداث كثيرة:
ـ وصول الخميني إلى سدّة عرش كسرى وبلاد فارس حدث مفصليّ لا يمكن قراءة ما يجري اليوم بمعزل عنه.
ـ صعود حركة المجاهدين العرب في أفغانستان وخوضهم الحرب ضدّ الاتحاد السوفيتي والشيوعية أو “الكفر” فيها.
ـ هذان الحدثان كانا الباعثين أو المحفّزين الرئيسَين للأصوليات في المنطقة والإقليم. والأصوليات تلك تتحكّم بالقرار وبمسار الأحداث في الصراع العربي الإسرائيلي، أقلّه منذ ما بعد حرب تشرين 1973، أو “نصر تشرين” الذي أفضى إلى مسارات سلميّة في المنطقة انطلاقاً من مصر مروراً بـ17 أيار 1983 في لبنان وصولاً إلى اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل 1994، واتفاق أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي.
ـ وهو مسار لم يرُق “للأمّة الإسلامية وأهلها ونحلها الكثيرة”. ولم تجاهر الحركات الإسلامية السنّية الجهادية وغير الجهادية، بتأييدها له أو رفضها إيّاه. كانت عينها طوال الوقت على “المارد الشيعي” الذي خرج من قمقمه، وفق تعبير نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل الشيخ عبد الأمير قبلان.
مرحلة جديدة؟
لا شكّ في أنّ ما قبل “طوفان الأقصى” ليس كما بعدها، على صعيد الصراع السنّي ـ الشيعي في الشرق الأوسط، كما على أصعدة عدّة منها الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والصراع العربي – الإسرائيلي، والصراع بين “موسى وعيسى ومحمد” على ما ذهب فيليب حبيب في حديثه إلى صحافي إسرائيلي كان يغطي اجتياح بلاده للبنان عام 1982.
في الحرب الدائرة في المنطقة، والمشتعلة على نيران متفاوتة من اليمن جنوباً إلى العراق وإيران شمالاً وشرقاً، تحضر المذاهب الإسلامية على اختلاف توجّهاتها و”اجتهاداتها”.
ـ من جهةٍ، إسرائيل الدولة اليهودية، أو التي تسعى إلى يهودية الدولة عبر إبعاد وإقصاء وتهجير كلّ من ليس يهودياً من الأراضي الفلسطينية وعنها.
ـ ومن جهة أخرى، يقاتل أهل الأمّة، أي أهل السنّة والجماعة، كتفاً إلى كتف الشيعة الاثني عشرية من إيران والعراق ولبنان، والزيديين من اليمن، في ما يشكّل وحدةً إسلاميةً يعضدها تعاطف وتأييد مسيحي ينبعث من فسيفساء المنطقة الإثنيّة وتنوّعها الديني، في نادرة قلّما حدثت في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر.
بهذا المعنى، وعلى هذا النحو، تكمن أهميّة عملية “طوفان الأقصى” في هذا الجانب تحديداً، ومن هذه الزاوية أكثر من أيّ جانب آخر أو زاوية أخرى. وما ينبغي معاينته قبل كلّ شيء ما إذا كانت الأولوية للأمّة أو للدولة الوطنية. لقد جرّبنا كثيراً “الأمّة” على معانيها المتعدّدة. وحدها الدولة الوطنية طوق النجاة من كلّ أيديولوجية.