كتب جان عزيز في أساس ميديا:
إذاً هي ثلاث وقائع تثير قلق اللبنانيين السياديين من مهمّة هوكستين الأخيرة، بما سبقها وقد يليها. ثلاث وقائع تعيد إلى الأذهان سابقتين في الذاكرة المعاصرة، لطريقة تعاطي واشنطن مع ملفّ بيروت، بتعقيداته التي يهرب منها الأميركيون كأنّها “وباء معدٍ”، كما قال مرّة ناظر خارجيّتهم السابق جورج شولتز.
يبقى السؤال: هل يكفي ذلك للقول إنّ الصفقة قد تمّت، وقد أُنجز تلزيم لبنان، أو حتى بيعه في سوق نخاسة المنطقة، من إيران أو من طرف آخر؟
التفاصيل كثيرة. ومثيرة. مثل فيلم أميركي طويل، في سينما الواقع اللبناني.
كما ورد في مقال أمس، ثمّة نقزة تولّدت لدى السياديين اللبنانيين من مهمّة الموفد الأميركي هوكستين، نتيجة ثلاث وقائع:
فهو أوّلاً كان قد استبقها بجسّ نبض الخماسية حيال صفقة حدودية – رئاسية. وهو ثانياً كان قد أسرّ لمسؤولين لبنانيين أنّه مستعدّ لوهب الأمين العام للحزب انتصاراً حدوديّاً، مقابل نجاح مهمّته المجهولة الأهداف الحقيقية والمضمرة. وهو ثالثاً من “أصحاب السوابق”، إذ كان قد تفاوض مباشرة مع الحزب على الترسيم البحري. وأبرم الصفقة معه. ولم تكن مؤسّسات الدولة اللبنانية غير واجهة قريبة من مفهوم “الزوج المخدوع”. وقد تمّ ذلك كلّه على حساب بحر لبنان وحقّه وثرواته… وهو ما بات مؤكّداً وثابتاً بالملموس اليوم.
إيقاظ الهواجس
ثلاث وقائع تعيد في ذاكرة السياديين إيقاظ هاجسَين ماضيَين لم يمضيا:
1- صفقة عام 1976: يوم صرخ كيسنجر لموفده إلى لبنان دين براون: انتهت مهمّتك هناك. فلا تتعب رأسك بعد. لقد وجدتها. سألزّم هذا المكان الموجع للرأس إلى حافظ الأسد.
وهكذا كان. دخل جيش الأسد سنة 1976 لبنان. ولم يخرج منه إلّا بعد 29 عاماً. ولم يخرج لبنان منه، حتى اللحظة.
2- صفقة عام 1990: كان بوش الأب ذاهباً لقتال صدّام حسين في الكويت. وأراد لذلك تغطية عربية. فتلقّفها مرّة جديدة الأسد. وتمّت الصفقة: جيش الجولان يحارب رمزيّاً في “عاصفة الصحراء”. فيما عاصفته البعثيّة تجتاح لبنان كلّه.
ثلاث وقائع تعيد إلى الأذهان سابقتين في الذاكرة المعاصرة، لطريقة تعاطي واشنطن مع ملفّ بيروت، بتعقيداته التي يهرب منها الأميركيون
فهل تتكرّر الصفقة ذاتها مرّة ثالثة، من أجل وصاية أخرى، من نوع إيران، مباشرة أو عبر الحزب؟
في الشكل ولو نظريّاً، يمكن للمعادلة نفسها أن تخطر في بال حكّام واشنطن. وهي المعادلة المكوّنة من خلاصة هذه الأفكار:
1- لبنان بلد غير قابل للحكم وغير أهل لأن يكون دولة. وبالمناسبة نُقل عن ديفيد هيل خلال حفل في واشنطن، عن كتابه الأخير عن لبنان، كلام مطابق لهذه الأفكار الأميركية العتيقة والثابتة.
2- كلّ المطلوب أميركياً من هذا “المكان” أمران: ألّا يشكّل خطراً على إسرائيل. وألّا يتحوّل بؤرة تهدّد أيّ شيء أميركي. أكان سائحاً أو دبلوماسياً أو مصلحة عابرة من هنا أو هدفاً سياسياً في الجوار.
3- وبالتالي إذا كانت طهران قادرة وراغبة في القيام بهذه المهمّة. مباشرة أو عبر “حليفها” في بيروت. وفق دفتر الشروط المعروف والمعلن. فليكن. ولتتفضّل. واليوم قد يرسو عليها التلزيم بالتزكية. نظراً لغياب أيّ عارض آخر.
كل شيء تغيّر
هذا في الشكل ونظريّاً. لكن في الواقع، لبنانياً وشرق أوسطيّاً، ثمّة أمور كثيرة قد تغيّرت وتبدّلت وباتت تناقض نمطية تلك المعادلة. وهذه بعض أمثلة ما تغيَّر:
1- سنة 1976 أُقرّت صفقة تلزيم لبنان للأسد، بما يشبه الموافقة العربية العلنية أو الضمنية. كانت مصر السادات تتحضّر بعد اتفاقية سيناء، لسلامها المنفرد. وكانت تبحث عمّن يضبط ردّ الفعل الفلسطيني المرتقب.
وكان الأردن خائفاً على نفسه من مؤامرة الوطن الفلسطيني البديل. ويتوق لدفع الخطر إلى أيّ مكان آخر.
وكان الخليج أقلّ تأثيراً في جيوسياسة المنطقة…
حتى سنة 1990 كان المشهد إلى حدّ ما مماثلاً: خطر صدّام المتحوّل أولوية خليجية، ووعد السلام بعد مؤتمر مدريد…
كلّ ذلك سمح للأسد الأب في المرّتين، بأن يفوز بالعقد الأميركي على رأس لبنان.
دخل جيش الأسد سنة 1976 لبنان. ولم يخرج منه إلّا بعد 29 عاماً. ولم يخرج لبنان منه، حتى اللحظة
بينما اليوم، وباختصار شديد، يمكن القول إنّ المشهد العربي مختلف تماماً. لأنّ المنطقة العربية تغيّرت أوّلاً. وثانياً لأنّ إيران ليست سوريا بالنسبة إلى العرب. حتى لو كانت سوريا البعث. وبالتالي فما كان موافقة عربية على وصاية الأسد يومها، تحوّل اليوم رفضاً وممانعةً وحراكاً ومحاولات عربية راهنة، لصدّ أيّ مشروع وصاية إيرانية على لبنان بتلزيم أميركي.
2- كما أنّ إيران ليست سوريا في لبنان. وقدرات طهران في بيروت، بمعزل عن نيّاتها ورغباتها، لا تقارب إطلاقاً قدرات دمشق حيال بيروت. إن كان في منتصف السبعينيات أو مطلع التسعينيات. فالنظام الإيراني لا يجاور لبنان تاريخياً وجغرافياً وديمغرافياً وعلاقاتٍ شاملةً لكلّ نواحي الحياة. وهو لا يملك بالتالي “البنية التحتيّة” التي أنشأها نظام الأسد لتكريس وصايته: لا “وكلاء” لإيران في كلّ الطوائف. فلا قدرة لها على تجنيد بضع مئات من السياسيين لتركيب دولة من فوق. ولا على “تجنيس” مئات الآلاف، لتغيير شعب من تحت. ولا تملك النموذج ولا الأدوات التي شكّلت الترسانة التي نسجها الأسد طوال عقود لاحتلال لبنان…
مع ذلك فشلت دمشق يومها. حتى وحّدت اللبنانيين خلف مطلب السيادة ضدّها، بين 2004 و2005.
3- وعلى الرغم من كلّ شيء، الحزب ليس نسخة مستنسخة عن “النظام الأمنيّ السوري اللبناني” الذي جسّد وصاية نظام الأسد.
فهو واقعياً محصور في بيئته. غير “متفشٍّ” على طريقة أزلام الوصاية البائدة. وهو مبدئياً ليس حزب سلطة ومنافع وزبائنيّات، كما كانت منظومة الوصاية. على الرغم من خروق داخله باتت تضجّ بها ألسنة العارفين. وإذا ما سقط الحزب في تركيبة كهذه، فقدَ مشروعيّته اللبنانية كاملة كمقاومة. بعد فقدها في نواحٍ أخرى في السياسة والتغيير، خصوصاً بعد دخوله السلطة وبعد قمعه لشباب 17 تشرين.
في النهاية هذا الحزب على الرغم من شطحاته كافّة، سيظلّ على صورة أمينه العامّ. ويستحيل أن يصبح على صورة أبي يعرب أو أبي عبدو. وإلّا انتهى كما انتهيا. ولذلك يستحيل على الضاحية أن تستنسخ تجربة عنجر.
يمكن القول إنّ المشهد العربي مختلف تماماً. لأنّ المنطقة العربية تغيّرت أوّلاً. وثانياً لأنّ إيران ليست سوريا بالنسبة إلى العرب
4- لبنان الباقي كلّه تغيّر. لم يعد هناك مسلمون يحملون شعار الغبن حصراً. ومستعدّون لركوب الموجات الناصرية أو الفتحاوية أو حتى البعثية. للحصول على نائب إضافي أو موظّف فئة أولى آخر. ولو تدمّر لبنان.
ولم يعد هناك مسيحيون يرفعون شمّاعة الخوف على وجودهم، ليستخدمها زعماؤهم ذريعة استقواء بتحالفات خارجية، من أيزنهاور وشارون إلى صدّام والأسد…
وهما السلوكان، المسيحي والمسلم، اللذان فجّرا أسس الميثاق الوطني والوطن وجعلا صفقتَيْ الوصاية واقعاً عامَي 1976 و1990.
في الخلاصة، قد يكون السياق العامّ مماثلاً للحظة صفقة أميركية إيرانية على حساب لبنان، الدولة السيّدة المستقلّة. لكنّ كلّ ما تحت ذلك قد تبدّل.
والأهمّ خلاصة التاريخ اللبناني، من صخور نهر الكلب. وهذه ليست سردية زجلية سخيفة. وصولاً إلى مفارقة الغياب المأساوي لكلّ ضابط سوري شارك في وصاية نظامه على لبنان…
ربّما لأنّ هذا لبنان. “المكان” العصيّ على كلّ شيء. فإذا كان حكمه لنفسه وبنفسه صعباً، فالأكيد أنّ استدامة أيّ احتلال غريب له، مستحيلة.
وهو كذلك، منذ قيل في الكتب أنّ موسى نظر إلى جبله وسأل الله عنه، ليجيبه: “أغمض عينيك. هذا الجبل هو وقفٌ لي. لن تطأه قدماك لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك”… وهذه أيضاً ليست سردية ميتولوجية سخيفة أبداً!