سلايداتمقالات

يظنّونه الفصام اللبناني

كتبت رشا الأطرش في المدن:

كلما اقترب وازداد احتمال الحرب، شاملةً توقعناها أو مضبوطة، تلاشَت، أكثر فأكثر، فوارق “الحياة” بين المناطق والطوائف والجماعات اللبنانية. إنه ما يُسمّى اليوم، اعتباطاً، الفصام أو المفارقة اللبنانية، وتتسابق وكالات الأنباء الدولية على رصده كأعجوبة صغيرة، وربما كمَرَض.

هنا قصف وجدار صوت، ضحايا وبيوت تُسوّى بالأرض. وهناك مهرجان وحفلة ومقاهٍ تغص بروّاد السهر. وبينهما، يبدو أن الكارثة التي يخشاها الجميع، أو ما يلوح من مساواة في الابتلاء بها، هي نفسها تفسّر تباينات ذاك التعاضد “الوطني” الذي يراه كثُر مفقوداً، ويتراوح إدراكه بين “نحن نحب الحياة وهم يقدسون الموت”، وبين “نحن أيضاً لبنانيون ونعاني ونُستهدف لكنهم لا يروننا، يخونوننا بيومياتهم ولامبالاتهم”. سوى أن الأمر ليس بالبساطة هذه، و”الشرخ” ليس نظيفاً جراحياً إلى هذه الدرجة.

لعلنا، إذ نفتش في دفاتر الحرب الأهلية، نجد الظاهرة أوضح، ونتذكّر كم أنها قديمة. طبيعة ثانية لهذا البلد. المناطق “الشرقية”، الواقعة تحت سيطرة حزب واحد وطائفة واحدة تقريباً، على الأقل خلال الردح الأكبر من سنوات تلك الحرب، كانت تأتي سكان المناطق الغربية على ألسنة المتنقلين بين البيروتَين من معبر المتحف وسواه. تصل إلى “الغربية” أخبارُ “الشرقية” وصورها اللاهية، كمكان ليس في هذا البلد الممزق، بل كمنتجع أو محمية لا تعكّر معارك الشوارع وانقطاعات الكهرباء ومزاجية القنّاصة وعشوائية السيارات المفخخة، صفو انتظام العّيش فيها، إلا قليلاً، وفي مراحل تُعتبر استثناءات أكثر منها متناً سائداً. ثم باتت “الشرقية” تأتي بالصوت والصورة الملونة عبر شاشة “إل بي سي” منتصف الثمانينات، فتُدهش أهل “الغربية” حتى يحلّ تقبّل ذاك اللبنان الفضائي محلّ الحسد.

حتى في قلب “الغربية”، كانت هناك حانات شارع المكحول، وفندق “السمرلاند” بشاطئه وعلبه الليلية. وطبعاً الحمرا، حيث تنتعش عروض مسرح البيكاديللي وصالات السينما، ويكتظ مقهيا “المودكا” و”الويمبي”، بين جولات القتال في الأزقة، والرصاص الماطر من أسطح المباني، وأخبار العبوات المتفجرة المزروعة تحت مقاعد مخملية كان لها عزّ، وتهالكت، لكنها ظلت وثيرة لمشاهدي أحدث الأفلام الأميركية، أسوة بالهندية والمصرية.

جرى ذلك كله قبل نحو عقدين من اختراع شعار “نحن نحب الحياة” ليرافق تظاهرات 14 آذار 2005، ثم يستنهض الردّ المِرآتي في صفوف قوى 8 آذار ضمن لافتات “نحن نحب الحياة… بكرامة”. ذلك أن الخراب، حين يكون مديداً، تمسي ديناميات عَيشه، والبقاء في كنفه وحفظ النوع تحت سقوفه المثقوبة، هي نفسها الحياة “العادية”. وفي الحياة العادية هناك الفرح والحزن، الخوف والمرح، اللحظة المُفجعة ونسيانها. هذا في استثناء طال أمده وتشعب، اسمه الحرب الأهلية.

أما في سنوات السِّلم الأهلي الضنين، فقد عاد شيء من الجغرافيا. التاريخ خريطته وطريقه “القادومية”. والحُكم التشاركي بهذه الدرجة أو تلك من التحاصص والتراضي. استعاد اللبنانيون لُحمة معنوية ما، مبثوثة بالأمل في غدٍ واعد هو عملياً ما جمعهم بعد شتات واحتراب. أفق زاخر بفرص جديدة وأحلام تحقق بعضها الكثير بالفعل. لذلك، ولّفت محطات الحروب مع إسرائيل خلال سنوات السّلم (1991 – 2005)، تضامناً ما حولها، ومشاعر شبه موحدة بالتكاتف أمام مُصاب اللبنانيين بالاعتداءات الإسرائيلية المتواترة، ولو احتدم النقاش في المسؤوليات عنها بعد تحرير الجنوب العام 2000.

لئيمة أواصر الجغرافيا. معقّدة معانيها. بسيطة رؤى أهلها، لها ولأنفسهم. لطالما فاقمتها حازوقات النظام اللبناني الذي أثبت في النهاية أنها هي الأصل، وما سواها كان الوهم. أو أقلّه، الوقت المُختلَس من حتمية الفشل، فسراب الفكرة اللبنانية رغم بعض ملامحها الملموسة.

بمنطق الجغرافيا هذه نفسها، يُرى لبنان اليوم، ويبطُل العجب. شوارع الأشرفية المضاءة، والحمرا الغارقة في العتمة والنفايات، مثال بسيط أوّلي على لامركزية الانهيار. فيدرالية البؤس بتلاوينه المرسومة بمصادفات ليست مصادفات البتة. لبنان الجُزُر. ولكل جزيرة “شعبها”، بكل ما تعنيه الكلمة من عُصبة هوياتية (طائفة، قبيلة، منظومة قيمية وسياسية وثقافية).

هنا إصرار على الفرح كفعل سياسي جماعاتي، قد يكون الوحيد الممكن راهناً، ولا ينفصل عن الشعور بالاستضعاف والتجاوز والتهميش. وهناك تجهّم وحِداد يجدد ذاته، ليس بلا مبرر موضوعي وميداني، لكنه أيضاً ليس غريباً على مظلومية أزلية سرمدية هي الوجه الآخر لفائض القوة وشكيمة صناعة القرار.

لا حواجز ولا أكياس رملية تفصل جغرافيات اليوم. العدو خارجي، واضح، على عكس ما كانه الحال في حرب الأخوة الأعداء، لكن أيضاً من دون أن تُخفّف النار تحت القِدر اللبناني الذي يغلي بمكوناته. لا يُدرأ التشظي النفسي والسلوكي، وفي الوقت عينه لا حجج مُقنِعة ترفد التعامل معه باعتباره غرائبياً أو كَنسه تحت شرح ساذج تجهيلي من قبيل الفصام أو التناقض. لا تناقض هنا. هنا لبنان البائن كالشمس، الطبيعي بمقدار انسجامه مع تركيبته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى