كتبت رلى إبراهيم في “الأخبار”:
يرتسم قلب افتراضي كبير فوق مدينة طرابلس يشعر به كل من يسير في شوارعها ويلمس مدى احتضان أهلها للنازحين من قرى الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. ثمة عاطفة يصعب على غير الطرابلسي فهمها، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية والعربية. فبوصلة المدينة ثابتة أبداً باتجاه حركات المقاومة والقضايا الوطنية والعربية. ولطالما سارت طربلس وفق عاطفتها مغلّبة قلبها على عقلها، فكانت المدينة اللبنانية الوحيدة التي تجمع الأضداد وتناصر قضاياهم في كل أصقاع العالم: من الخروج بمهرجانات شعبية تأييداً للثورة الجزائرية، الى احتضان «أبو عمار»، الى فائض الفرحة بتحرير الجنوب عام 2000، مروراً بفتح المدينة أمام اللاجئين السوريين، الى تحويل ساحة النور الى رمز للانتفاضة اللبنانية عام 2019، فالتضامن الشعبي الواسع مع حماس غداة عملية 7 أكتوبر وتنظيم احتفالات تأبين لشهداء الجماعة الإسلامية.
رغم بعض أصوات النشاز ومحاولات تأجيج الفتنة بين البيئة الطرابلسية والنازحين، لم توفر طرابلس بيئة حاضنة للمفتنين، بل ذهبت بعيداً في احتضان القادمين إليها، رغم وضعها الاقتصادي السيء وإهمالها المتعمد والخلافات السياسية والطائفية التي حكمت مرحلة ما بين عامَي 2005 و2017. وفي ظل عدم تغلغل جمعيات المجتمع المدني بكثرة فيها مقارنة بعدد سكانها على عكس المدن اللبنانية الاخرى، سارعت اللجان الأهلية في المدينة الى ملء الفراغ وتداعت الى التعاون لتأمين حاجيات مراكز الإيواء وتوفير الدعم الطبي والنفسي اللازم للأطفال بشكل خاص. وهو ما ساهم في إضفاء «جو من التآلف والتقارب بين مجتمعين مختلفين كانت تفصل بينهما مئات الكيلومترات والضغائن السياسية والطائفية المفتعلة، لكنهما اختارا اليوم أن يجتمعا على مقاومة مخطط العدوّ الإسرائيلي بالاستيلاء على أرضهم» كما تقول إحدى الناشطات الطرابلسيات، «خلافاً لكل التوقعات بحدوث إشكالات وموجات عنف بين الطرفين».
لا تشبه طرابلس غيرها من المدن. فالمدينة الفقيرة التي تختنق بسكانها وبالمخيمات تستقبل اليوم نحو 20 ألف نازح موزعين على مراكز الإيواء، علماً أن هذا الإحصاء لا يشمل مراكز غير معترف بها وأخرى غير محصية، إضافة الى من يتوزعون على الفنادق والشقق السكنية ويناهز عددهم عدد الموجودين في المدارس. الأعداد الكبيرة التي وصلت الى المدينة دفعة واحدة، لم تدفع باعة الخضر والألبسة والدكاكين الصغيرة إلى الاستفادة من زيادة الطلب على الحاجيات الأساسية لرفع الأسعار ولو برزت استثناءات تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. «ليست طرابلس أمّ الفقير عن عبث»، يقول أحد الباعة، «ولن نكون نحن من نتاجر بدماء الناس ومآسيهم». يؤكد جاره على كلامه، مضيفاً أن حركة البيع زادت هذا الشهر وقد تمكن من تحقيق ربح متواضع عوّض عليه شحّ الشهرين السابقين بعدما توافد «أهل الجنوب» الى متجره لشراء الألبسة.
التعاضد الشعبي يقابله غياب حكومي تامّ، إذ تؤكد مختلف الجمعيات الأهلية أنها لم ترَ أيّ ممثل عن الدولة أو لجنة الطوارئ إلا مرة واحدة عندما قدّم أحدهم نفسه على أنه مندوب للهيئة العليا للإغاثة ويرغب في القيام بجردة في المراكز لاستطلاع حاجتها. مضى أكثر من شهر على الزيارة، ولم يجد رئيس الهيئة اللواء محمد خير ما يرسله الى طرابلس بعد، رغم المساعدات الوافدة الى البلد. لكن ثمة من رصد بعض المندوبين يتجولون بإشراف السفارة السعودية التي عملت على توزيع مساعدات ممهورة بشعارات المملكة، وتكاد تكون تلك المساعدات الأفضل حتى الساعة لناحية قيمتها ومضمونها. باستثناء ذلك، تنشط منظمة الغذاء العالمي وكاريتاس في المجال الغذائي وتأمين الوجبات اليومية الساخنة، إلا أن الشكاوى حول نوعية الطعام تتفاقم يومياً، إذ إن المنظمة وكاريتاس تعاقدتا مع مطاعم معينة لتأمين عدد كبير من الوجبات ما أثّر على جودة الأكل، وخصوصاً أنه تم تحديد 2.3$ للوجبة الواحدة مقابل رغبة صاحب المطعم في تأمين ربح له، فتكون النتيجة وجبات غير صالحة للأكل يرفض قسم كبير استهلاكها فتتعرض للتلف.
وثمة أزمة مماثلة في تأمين مياه صالحة للشرب، وتعزو الجمعيات النقص الى تنصل الهيئة العليا للإغاثة من مسؤوليّتها رغم إبلاغ الصليب الأحمر لها بحاجة المراكز الماسّة الى مياه نظيفة تفادياً للأمراض التي بدأت تظهر. فالواقع أن المياه التي تؤمنها بعض الجمعيات غير كافية نسبة إلى الأعداد الكبيرة، وخصوصاً أن تدفق التبرعات الفردية في الأيام الأولى ينحسر تدريجياً، ما يزيد الحاجة الى تدخل الدولة. الى جانب ذلك، تعاني معظم مراكز الإيواء من انقطاع الكهرباء وعدم توفر المياه الساخنة والأغطية الشتوية ووسائل التدفئة مع بداية فصل الشتاء. وثمة مشكلة تلوح في الافق، إذ يفتقر معظم طلاب الجامعات والمدارس الرسمية إلى حواسيب لمتابعة دروسهم مع فتح الجامعة اللبنانية أبوابها وقرب افتتاح العام الدراسي الرسمي بموازاة تململهم من الظلم اللاحق بهم نتيجة الظروف غير المناسبة للدرس داخل الغرف الضيقة والمكتظة أو في باحات المراكز.
المخيمات تحتضن المخيمات
كذلك سجّلت حركة نزوح كبيرة من مخيمات الجنوب وبيروت باتجاه مخيمَي البداوي ونهر البارد، بالإضافة الى توافد عدد من العائلات اللبنانية أيضاً. وفتحت الأونروا 6 مدارس تابعة لها في مخيم نهر البارد لاستقبال النازحين الذين تعمل على تأمين حاجياتهم عبر متبرعين أو عبر بعض المؤسسات الفلسطينية. كما ينشط محمود عماد عودة، نجل القائد العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي استشهد مع اثنين من رفاقه في عملية اغتيال نفذتها طائرات العدو الإسرائيلي على شقة سكنية في منطقة الكولا قبل 3 أسابيع. وقد شكلّ الأمر دافعاً إضافياً لمحمود لمتابعة عمله التطوعي داخل المخيم وخارجه، إضافة الى نشاطه في الأندية الشبابية وفي أطر الجبهة الشعبية التي ينتمي إليها أباً عن جدّ: «المخيمات تشكّل قلباً واحداً وتحمل قضية واحدة وفكراً واحداً، كما أن عدوّها واحد وهو العدوّ الاسرائيلي. لذلك المخيم كله اليوم يؤيد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس، التي هي جزء من المقاومة الى جانب الفصائل الفلسطينية الأخرى»، يقول محمود. ويثق الشاب الثلاثيني المولود في لبنان كما والده قبله، بأن «النصر قريب، وسنواصل درب الكفاح حتى تحرير آخر حبة من تراب فلسطين والعودة إليها».