كتب د. وليد صافي في الأنباء:
اما وقد بدأت مهلة ال 60 يوماً لوقف إطلاق النار…في هذه الحرب، لم تحقق إسرائيل اهدافها كافة، والدليل أن سكان الشمال يرفضون العودة لعدم شعورهم بالأمان. في خطابه بعد موافقة حكومته على وقف إطلاق النار، باع نتنياهو مستوطني الشمال موقفاً غير قابل للصرف، إذ ربط نهاية الحرب بعودتهم إلى منازلهم. وبغض النظر عن التقييم الاسرائيلي أو الإيراني لنتائج هذه الحرب بوصفها حرباً اسرائيلية-ايرانية على ارض لبنان، أو تقييم حزب الله الذي شكل الذراع الأساسية لهذه الحرب، فإن اليوم التالي بالنسبة إلينا قد بدأ. وعليه، هناك أهمية لتحديد الاولويات، مع تجنب الوقوع بخطأ التعامل مع الطائفة الشيعية كأنها طائفة مهزومة، أو التفكير بصرف نتائج الحرب لتغيير الصيغة السياسية الحالية، أو التعامل بسطحية وعفوية في معالجة القضايا المعقدة.
عودة النازحين اولوية الاولويات
بالطبع، تشكل عودة النازحين اولوية قصوى، لما تحمل في بذورها من مشاكل ذات طابع اجتماعي، وأمني، وقلق لدى النازحين من اقدام إسرائيل على منع العودة إلى بعض المناطق المحاذية للحدود. وكذلك قلق المجتمعات المضيفة من مخطط العدو الاسرائيلي بتأبيد النزوح واستخدامه كأداةلتغييرات ديموغرافية تهز استقرار المناطق وتشعل فتيل مواجهات داخلية لطالما راهنت عليها الحكومات الاسرائيلية يمينية كانت ام يسارية. طوابير عودة النازحين صباح الاعلان عن دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تؤكد تمسك النازحين بأرضهم وبيوتهم، الأمر الذي لاقى ارتياحاً كبيراً لدى المجتمعات المضيفة، وضاعف مسؤولية الدولة في إعداد خطط إعادة الإعمار وتنفيذها، التي تعتبر مدخلاً اساسياً لتأكيد دور الدولة في حماية كرامة المواطنين وعودتهم إلى منازلهم. ويجب على الدولة ان لا تفوت هذه الفرصة في تأكيد مرجعيتها في إعادة الإعمار وتولي مؤسساتها الإدارية هذه المسؤولية.
انتخاب الرئيس: عودة الانتظام إلى مؤسسات الدولة
تجاوز لبنان عامه الثاني دون رئيس جمهورية. وبرغم كل المبادرات الخارجية والداخلية التي سعى اليها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، بقيت الرئاسة اسيرة الخلافات الداخلية، المسيحية- المسيحية بشكل خاص، وتدخل ” الراعي الايراني” لتأخيرها وجعلهاعلى طاولة المزايدة والبيع والشراء في نهاية الحرب. الفراغ الرئاسي الذي كانت له تداعيات على التوافق الوطني في موضوع من يتولى المفاوضات لإنهاء الحرب، لم تتمكن حكومة تصريف الاعمال (المقاطعة من فريق مسيحي مشارك في تركيبتها) من ملئه لألف سبب وسبب. لقد لعب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي دوره في حدود “فن الممكن”، واتخذ مواقف مسؤولة. الاطراف التي تعتبر أن رئيس الجمهورية هو المسؤول دستورياً عن المفاوضات، هي على حق، لكن انتقال هذه الصلاحية إلى الرئيس بري جاء “بحكم الواقع”. إذ فُوِضَ من قبل حزب الله الذي يقبض عملياً على قرار السلم والحرب، وهل من أحد آخر كان يمكن تفويضه بهذه المهمة؟ المنتقدون، لم يتساءلوا لماذا تفاوض الاميركيون لمدة عشر سنوات مع الرئيس بري بشأن ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية مع إسرائيل، ووضعوا إطار التفاهم معه الذي كرسه الرئيس ميشال عون باتفاقية موقعة منه. الاميركيون الذين يؤمنون ويمارسون البراغماتية بأوسع مداها، راهنوا على دور الرئيس بري في هذه المرحلة، لأنه كما يقولون بالإنكليزية، “He can deliver”. كما أن البراغماتية الامريكية جعلتهم ينظرون بواقعية إلى مركز الثقل الجيوسياسي في لبنان، والذي يتغذى في الاساس من معادلة اقليمية دفعت بها ادارة الديمقراطيين منذ وصول اوباما إلى البيت الأبيض. ويبقى السؤال الواقعي، من كان يستطيع في هذه المرحلة المعقدة التفاوض باسم حزب الله، وخلفه الإيراني الذي يراقب ويتفحص الشاردة والواردة غير الرئيس بري؟ الان أصبح هذا الموضوع خلفنا وانتزع لبنان قرار وقف إطلاق النار. فهل يحصل توافق مسيحي- مسيحي وتنجز الانتخابات، ام يستمر الفيتو من هنا والطموح من هناك؟ بالطبع الطموحات مشروعة، لكن النظر إلى الأمور بواقعية يفتح الباب نحو حلول بديلة. وفي المقابل، هل ستلتزم كتلة حزب الله البرلمانية بما أعلنه الشيخ نعيم قاسم، أن الحزب سيساهم في انتخاب الرئيس وفق المعادلة الدستورية؟ وهل سيسهل الراعي الاقليمي للحزب توافقاً لبنانياً على انتخاب رئيس قادر على ادارة تحديات هذه المرحلة؟ ام يريد قبض الثمن في ملفاته الاقليمية والدولية وما اكثرها؟ الستون يوماً القادمة وما بعدها كفيلة بالرد على هذه الاسئلة.
إعادة قرار الحرب والسلم إلى الدولة
اعلنت الحكومة مجتمعة تمسكها بالقرار 1701 وأكدته في الموافقة على وقف إطلاق النار المبني على الورقة الاميركية المؤلفة من ثلاثة عشر بنداً.
الكلام الذي سمعناه من امين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم قبل وقف إطلاق النار بخصوص العمل تحت سقف الطائف والدولة، مضافاً إليه المقاربة التي نشرها في جريدة الاخبار رئيس كتلة المقاومة النائب محمد رعد،( ورغم تغييب ايران عنها، والاستمرار بحالة الإنكار لطبيعة الحرب، والتمسك بشعار جيش، شعب، مقاومة ) يبنى عليه لإطلاق حوار وطني بعد انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة وفاق وطني، حول آلية تطبيق القرار 1559، بما يؤدي إلى رسم سياسة دفاعية تحصر السلاح بيد الدولة المسؤولة الوحيدة عن الدفاع عن لبنان وعن تقرير حالة الحرب والسلم. اوافق النائب رعد على اهمية البحث في المصالح الاستراتيجية للدولة في ضوء الأطماع والتهديدات الإسرائيلية وامكانية تحول ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، لكن هذا التحدي لا يمكن مواجهته بمنطق “الساحة” أو وحدة الساحات التي جرت الويلات على لبنان وشعبه. آن الاوان لفصل المسار الايراني عن المسار اللبناني، والإقرار أن المصلحة الاستراتيجية للدولة هي الابتعاد عن سياسة المحاور وعدم تحويل لبنان منصة للدفاع عن مصالح إيران وتحمل تبعات سعيها لامتلاك سلاح نووي. العودة إلى اتفاقية الهدنة تشكّل سنداً قانونياً وسياسياً لحماية المصالح الاستراتيجية اللبنانية في مواجهة أطماع إسرائيل وتهديداتها. إذ لا يوجد بلد في العالم يؤمن حماية أراضيه فقط من طريق القوة العسكرية للدولة، بل للسياسة والعلاقات الدبلوماسية واحترام القرارات الدولية دور كبير في تأمين مظلة الحماية، لاسيما البلدان الصغيرة والواقعة على جغرافيا سياسية معقدة كبلدنا.
اللبنانيون أُتخموا “انتصارات” ويتطلعون إلى الأمان في أحضان الوطن ومؤسساته الشرعية المسؤولة عن القرارات كلها ولا سيما الحرب والسلم، والعودة إلى إعادة ترميم علاقات لبنان التاريخية بمحيطه العربي. حروب الواسطة شارفت على نهايتها، ولبنان لا يستطيع ان يسير بمشروع ينظر اليه العرب بالريبة والخوف ويهدد استقرار دولهم. الاقرار بهذه الوقائع من قبل الحزب لاسيما بعد موافقته على الورقة الاميركية التي لا يمكن الاجتهاد فيها لتبرير الاحتفاظ بالسلاح، يسهل الحوار لرسم سياسة دفاعية تحمي لبنان بقوى الدولة الشرعية، وسياسة خارجية تعيده إلى الحضن العربي وتؤمن له مظلة دولية تساعده على الخروج من أزمته الاقتصادية، وتفتح الأفق لرؤية اقتصادية جديدة تتفاعل مع التحولات كافة، لتأمين اقتصاد وطني منتج للسلع والخدمات وفرص العمل.