كتب ميشال أبونجم في “الشرق الأوسط”:
عديدة الأسباب التي دفعت فرنسا إلى اتخاذ موقف متساهل إزاء طلب المحكمة الجنائية الدولية توقيف وجلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واعتبار أن قانونها الأساسي يمنحه الحصانة، وهو أمر مشكوك فيه. وبعد أيام من الغموض، اعتمدت باريس المقاربة القانونية للملف وارتكزت على المادة الـ98 من شرعة المحكمة، لتؤكد أن منطوقها يتيح لنتنياهو الإفلات من التوقيف في حال وطئت رجلاه الأراضي الفرنسية. بيد أن وراء القراءة القانونية دوافع سياسية. وترى مصادر فرنسية أن الرئيس ماكرون كان حريصاً على أن تكون باريس حاضرة في لبنان؛ إن في لجنة الإشراف على وقف إطلاق النار، وإنْ في الاستمرار في لعب دور سياسي. ولذا، دفعت الثمن لنتنياهو الذي رفض بدايةً مشاركة فرنسا قبل أن يعدل موقفه بفضل «الهدية» الفرنسية، التي أثارت انتقادات واسعة وعنيفة لباريس، خصوصاً من أوساط منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي رأت فيها نسفاً لمصداقية المحكمة.
والمعروف أن فرنسا كانت من أكثر المتحمسين لوجودها ولدعمها. وبحسب مصادر واسعة الاطلاع، فإن تمسك لبنان بوجود فرنسا وإصرار الرئيس الأميركي جو بايدن على ذلك، بعد الاتصال الهاتفي الذي جرى بينه وبين ماكرون، شكّلا أيضاً عوامل ضاغطة على نتنياهو ودفعته للتنازل. وسارعت باريس إلى تعيين ضابط كبير يمثلها في اللجنة الخماسية، وقد وصل إلى بيروت بالتزامن مع وصول الضابط الأميركي الكبير الذي سيقوم بترؤس اللجنة الخماسية: «الولايات المتحدة وفرنسا و(اليونيفيل) ولبنان وإسرائيل».
بيد أن الرئيس ماكرون الذي يعدّ أن حضور فرنسا مشروع ومبرر بالنظر للجهود التي بذلتها من أجل لبنان طيلة الأشهر الـ14 الماضية، وآخرها تنظيم مؤتمر دولي لمساعدته مالياً، وقد نتجت عنه وعود بتقديم مساعدات قيمتها مليار دولار، أراد الذهاب أبعد من ذلك، واستغلال وقف إطلاق النار للدفع بقوة، وبالتناغم مع واشنطن وأطراف عربية، باتجاه ملء الفراغ المؤسساتي وانتخاب رئيس للجمهورية، ومجيء حكومة كاملة الصلاحيات. من هنا، أتت مسارعته إلى إرسال الوزير السابق جان إيف لودريان إلى بيروت في سادس زيارة له؛ للدفع في هذا الاتجاه واتصاله، الخميس، بالرئيس نجيب ميقاتي ونبيه بري.
ووفق المصادر الفرنسية، فإن الملف اللبناني سيكون على رأس المواضيع التي سيتباحث بها ماكرون مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بمناسبة «زيارة الدولة» التي سيقوم بها إلى المملكة من الثاني إلى الرابع من شهر كانون الأول. وسيصطحب معه وفداً رسمياً واقتصادياً كبيراً، كما سيقوم بزيارة محافظة العلا.
خريطة طريق فرنسية
بيد أن ماكرون استبق كل ذلك بكلمة مصورة وجهها إلى اللبنانيين بعد سريان الاتفاق على وقف إطلاق النار. وبالنظر إلى الانتهاكات التي ظهرت منذ اليوم الأول للعمل به، الأمر الذي يثير قلق باريس، فقد حث الرئيس الفرنسي، وفق مصادر الإليزيه، «جميع الأطراف على العمل على التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار هذا» بين لبنان وإسرائيل، مشدداً على أن «جميع الأعمال التي تخالف هذا التطبيق الكامل يجب أن تتوقف فوراً». ولأن باريس ترى أن وقف النار يدشن مرحلة جديدة بالنسبة للبنان، فقد استعاد ماكرون محاولاته السابقة التي طرحها للبنان منذ انفجار المرفأ والزيارتين اللتين قام بهما عقب الانفجار مباشرة في عام 2020، بتفصيل الخطوات التي يفترض باللبنانيين القيام بها لتجنب ما يسميه لودريان «زوال لبنان»، أو ما عدّه مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل «حافة الهاوية». ورغم فشل المساعي الفرنسية السابقة لدفع النواب والطبقة السياسية لانتخاب رئيس للجمهورية، فقد جدد دعوته بمناسبة الاتصالين بـميقاتي وبري. ونقل عنه الإليزيه تشديده على «ضرورة أن تجد جميع الأطراف اللبنانية السبيل للخروج من الأزمة السياسية» التي تتواصل منذ عامين. وبحسب ماكرون، فإنه «من الجوهري أن تجري انتخابات رئاسية للسماح بتعيين حكومة قادرة على جمع اللبنانيين، وإجراء الإصلاحات الضرورية لاستقرار لبنان وأمنه».
وإذا كان ماكرون قد طالب بانتخاب «فوري» لرئيس الجمهورية، فإن أوساطاً فرنسية تتساءل عن الأسباب الحقيقية التي دفعت بري إلى تحديد هذا الموعد المتأخر، بينما الوضع الراهن «يستدعي وجود رئيس للدولة في أسرع وقت ممكن».
وقال سفير سابق في المنطقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «اللحظة اليوم مناسبة» للسير سريعاً بالانتخابات في ظل ما يشبه «الإجماع الدولي» على إنجاز هذه المهمة. وإذا ما حصل في السابق ما يشبه المنافسة بين باريس وواشنطن، فإن المصادر الفرنسية تؤكد راهناً «العمل يداً بيد» بين الطرفين.
يبقى أن ماكرون يريد مساعدة لبنان أكثر من ذلك، وعلى رأس اهتماماته دعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية بسبب الدور الرئيسي المناط بهما. من هنا يأتي تأكيده على «التزام فرنسا بتقديم دعمها للقوات المسلحة اللبنانية، سواء على المستوى الوطني أو في إطار قوات (اليونيفيل)» التابعة للأمم المتحدة. كذلك يريد ماكرون أن يكون الدينامو الذي يستنهض الأسرة الدولية لصالح لبنان، وهو ما لفت إليه في كلمته المصورة من أن فرنسا «ستواصل تعبئة جميع شركائها من أجل لبنان، سواء كانوا أميركيين أو أوروبيين أو عرباً».