
كتب العميد المتقاعد في الجيش اللبناني الدكتور المهندس وسام صافي
يتمحور مشروع حزب الله السياسي حول إنشاء نظام سياسي وأمني في لبنان يخدم مصالحه الإيديولوجية والإقليمية المرتبطة بإيران، وتحديداً بنظام ولاية الفقيه. يسعى الحزب إلى ترسيخ نفوذه عبر السيطرة على القرار السياسي، الأمني، والاقتصادي، ما يعزز موقعه كقوة مهيمنة داخل لبنان وذراع إقليمي يخدم أجندة إيران.
تتخطى الأزمة اللبنانية حدود الطائفة الشيعية، حيث نجح حزب الله، تحت مسمى “المقاومة”، في السيطرة على مفاصل الدولة المختلفة عبر منظومة موازية تشمل ترسانة عسكرية، نفوذاً إعلامياً، وقدرات مالية مستقلة. تحت مظلة “محور الممانعة”، بنى الحزب نفوذاً معقداً يمتد من التحصينات العسكرية إلى الهيمنة الإعلامية والاقتصادية، ما يمثل تحدياً جوهرياً أمام اللبنانيين في جهودهم لاستعادة دولتهم وسيادتها.
من الأنفاق إلى تخزين الأسلحة في المنازل: عبء عسكري على المدنيين
يحتفظ حزب الله بترسانة عسكرية خارج إطار الدولة اللبنانية، تتضمن صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة، إلى جانب شبكة معقدة من الأنفاق. يبرر الحزب هذا التسلح تحت شعار “المقاومة” وفرض دوره كقوة دفاعية ضد إسرائيل.
لكن تأثير حزب الله لم يقتصر على السيطرة الحدودية، بل امتد ليشمل بناء خطوط دفاع متعددة المستويات، منها الأنفاق، وتخزين الأسلحة في منازل المدنيين. هذا الواقع عرّض السكان في المناطق الحدودية لخطر القتل الممنهج والتهجير القسري، وأدى إلى دمار شامل في قراهم والبنية التحتية، ما يجعل العودة إليها شبه مستحيلة.
القرض الحسن: أداة لخدمة الأجندة السياسية والاقتصادية
أنشأ حزب الله نظاماً اقتصادياً موازياً لتعزيز موارده المالية وتمويل نشاطاته بعيداً عن الرقابة اللبنانية والدولية، مستفيداً من أدوات متعددة، أبرزها جمعية “القرض الحسن”. تعمل هذه الجمعية كمؤسسة مالية غير قانونية، خارج إطار النظام المصرفي اللبناني.
في ظل الأزمة المالية التي ضربت القطاع المصرفي، استطاع الحزب من خلال “القرض الحسن” توفير مورد مالي شبه مستقل، يتيح له تنفيذ أجندته دون خضوع للرقابة المالية أو القانونية. هذا النهج عزز من مكانة الحزب بين مناصريه، خاصة في ظل غياب بدائل اقتصادية ملائمة. إضافة إلى ذلك، يعتمد الحزب على التهريب عبر الحدود، تجارة المخدرات، والاقتصاد غير الرسمي، مما يرسخ نفوذه ضمن بيئته الحاضنة ويضعف هيبة الدولة ومؤسساتها المالية.
المال في خدمة صناعة رأي عام مؤيد
يعتمد حزب الله على موارده المالية لدعم وسائل الإعلام والتعليم بهدف نشر أيديولوجيته وترسيخ شرعيته. يروج الحزب لنفسه كمدافع عن “القضايا المحقة”، مثل تحرير فلسطين، بينما يضفي بُعداً دينياً على نشاطاته لتعزيز مكانته بين أنصاره. ويعمل على تحويل مناطقه إلى “كانتونات مغلقة” تخدم مشروعه الثقافي والديني، مما يقوّض مفهوم الدولة المدنية والتعددية.
ترافق هذا النفوذ المالي والعسكري مع استغلال واسع لوسائل الإعلام وبعض الإعلاميين الملتزمين بخط الممانعة. تم توظيف خطاب يرسخ فكرة المقاومة، مع تشويه الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتصوير الحزب كمدافع وحيد عن السيادة الوطنية. هذا النهج يتجاهل الأضرار الناتجة عن هيمنة الحزب، التي حوّلت الدولة اللبنانية إلى أداة تخدم مصالح إيران الإقليمية، بما في ذلك ملفها النووي.
الإعلام المدعوم، من قنوات تلفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية، يُموَّل بشكل مباشر أو غير مباشر لتعزيز هذه السردية. يتيح هذا التمويل للحزب توسيع نفوذه داخل المجتمع اللبناني، وتوجيه الرأي العام بعيداً عن الواقع المعيشي والاجتماعي الصعب الذي يعانيه المواطن اللبناني.
الهيمنة على المؤسسات الحكومية
يمتلك حزب الله قدرة كبيرة على التأثير في المؤسسات الحكومية اللبنانية، مستفيداً من نفوذه العسكري والسياسي الذي مكّنه من فرض هيمنته على الأجهزة الأمنية والعسكرية وصولاً إلى السلطات السياسية، الإدارية، والقضائية. يُدار هذا النفوذ عبر شبكة من التحالفات السياسية والمصالح المشتركة مع أطراف في السلطة، مما يمنحه قدرة شبه مطلقة على اتخاذ القرارات التي تخدم أجندته، مع تهميش دور الدولة ومؤسساتها الشرعية.
في الأجهزة الأمنية والعسكرية، يتدخل حزب الله بشكل غير مباشر لتوجيه السياسات بما يتماشى مع مصالحه. ورغم التزام الأجهزة الرسمية بالقوانين والدستور، تُظهر ممارسات الحزب وجود تأثير خارجي يُعرقل عملها بحرية. يُضاف إلى ذلك تغلغله في بعض الإدارات العامة، حيث يستفيد من المحسوبية والزبائنية لزرع الموالين له في مواقع مؤثرة تضمن استمرارية نفوذه على المدى الطويل.
السلطة القضائية بدورها لم تسلم من محاولات الحزب التأثير عليها، إذ يسعى إلى تعطيل التحقيقات أو توجيهها بما يتماشى مع مصالحه. وقد ظهر هذا النفوذ جلياً في ملفات حساسة تتعلق بالفساد أو بتورطه في أعمال أمنية أو عسكرية داخلياً وخارجياً.
استفادت الطبقة السياسية الحاكمة من تغاضيها عن هيمنة حزب الله، حيث توظف هذا التغاضي لتحقيق مكاسبها الاقتصادية والمالية. أدى هذا التواطؤ إلى إضعاف الدولة ومؤسساتها بشكل كبير، إذ أصبحت المصالح الحزبية والطائفية تطغى على المصلحة الوطنية.
نتيجة لهذه الهيمنة، تحوّل النظام السياسي اللبناني إلى نموذج يعاني من شلل شبه دائم، مع انعدام الثقة بين مكونات المجتمع. وقد أضعف هذا الوضع القدرة على اتخاذ قرارات وطنية موحدة، وأدى إلى تراجع ثقة المجتمع الدولي بالدولة اللبنانية، مما زاد من عزلتها وأضعف فرصها في تحقيق الإصلاحات الضرورية لاستعادة دورها وسيادتها.
الهيمنة على المؤسسات الحكومية ليست مجرد تحدٍّ سياسي، بل هي خطر وجودي يهدد فكرة الدولة نفسها، حيث يُحوِّل لبنان إلى ساحة مفتوحة للنزاعات الإقليمية والمصالح الدولية، على حساب بناء دولة مدنية قوية وعادلة تخدم جميع مواطنيها بالتساوي.
العقيدة الدينية وتأثيرها على طبيعة الدولة اللبنانية والتعددية السياسية والثقافية
منذ نشأته، تبنى حزب الله عقيدة دينية تستند إلى مبدأ إقامة دولة إسلامية ترتبط بولاية الفقيه، وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم. هذه العقيدة تتعارض بشكل واضح مع نموذج الدولة المدنية الحديثة القائمة على الشراكة، التعددية، والتنوع الثقافي والسياسي الذي يشكل الأساس للنظام اللبناني.
مع إدراكه لصعوبة تحقيق هذا المشروع الإسلامي في مجتمع متنوع مثل لبنان، تخلى حزب الله عن السعي المباشر لإقامة دولة إسلامية، لكنه بدلاً من ذلك اتجه إلى استراتيجية بديلة تقوم على السيطرة غير المباشرة. سعى الحزب إلى اختراق بعض الأحزاب اللبنانية من خلال قيادات ارتبطت معه بعلاقات مالية وسياسية، مما سمح له بتعزيز نفوذه ضمن النظام السياسي اللبناني.
إلى جانب ذلك، عمل حزب الله على انتقاد نمط الحياة السائد لدى العديد من اللبنانيين الذين لا يتوافق أسلوب عيشهم مع رؤيته العقائدية والشرعية. هذه الانتقادات تعكس محاولة لفرض ثقافته وأيديولوجيته على المجتمع، مما يقوّض التعددية الثقافية التي تشكل عنصراً جوهرياً في الهوية اللبنانية.
بهذا النهج، لم يكتفِ حزب الله بالسعي للسيطرة السياسية، بل حاول أيضاً التأثير على الطبيعة الثقافية والاجتماعية للبنان، وهو ما يهدد نموذج الدولة المدنية المتنوعة، ويزيد من حدة الانقسامات بين اللبنانيين.
التوسع العسكري الإقليمي وآثاره
يُعتبر حزب الله الذراع الأساسية لإيران في لبنان، حيث ينفذ سياساتها الإقليمية ويعزز نفوذها عبر دعمه لنظام الأسد في سوريا والحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى محاولته تطبيق استراتيجية “وحدة الساحات” التي تهدف إلى ربط الملفات الإقليمية ببعضها خدمةً لمصالح إيران. هذا التوسع العسكري والإقليمي ساهم في إضعاف التضامن العربي وأثار تساؤلات حول دعمه للقضية الفلسطينية، حيث يبدو أنه يسعى لضمها إلى محور ولاية الفقيه بدلاً من دعمها كقضية وطنية مستقلة.
لم يكن فتح الجبهة في جنوب لبنان سوى تأكيد على هذه الاستراتيجية، مما يخدم إيران على حساب سيادة لبنان واستقراره. يسعى حزب الله إلى تحويل لبنان إلى قاعدة استراتيجية لتحقيق أهداف إيران الإقليمية، بما في ذلك مواجهة إسرائيل واستعراض القوة في الشرق الأوسط، ما يؤدي إلى تقويض النظام الديمقراطي والطائفي القائم في لبنان لصالح نموذج سياسي ينسجم مع ولاية الفقيه.
تعكس هيمنة حزب الله السياسية والعسكرية تحدياً وجودياً للدولة اللبنانية، إذ تُعطل بناء دولة قوية ذات سيادة وتضع لبنان في مواجهة مستمرة مع محيطه العربي والمجتمع الدولي. وبدلاً من تعزيز الاستقرار، يُحوِّل مشروع الحزب لبنان إلى ساحة صراع تخدم المصالح الإيرانية، مما يُعيق إمكانية استعادة سيادته وبناء نموذج وطني مستقل.
تحدي إرادة الشعب
ان التوترات الداخلية التي يُنتجها الحزب بفعل هيمنته السياسية واستخدامه للسلاح أضعفت مبدأ الشراكة الوطنية، وحدّت من التعددية السياسية الضرورية، حيث نشهد تراجعاً ملحوظاً في التأييد الشعبي له داخل المجتمع اللبناني، لا سيما بين من يشعرون بثقل هيمنته على القرار الوطني. هذه الهيمنة أضعفت مبدأ الشراكة الوطنية، وحدّت من التعددية السياسية الضرورية. وتبرز الانتقادات الموجهة إلى حزب الله بوضوح اليوم، خاصة لدوره في تعميق الأزمات الداخلية وجرّ لبنان إلى حروب مدمرة مع العدو الإسرائيلي من دون حسبان نتائجها المدمرة.
يتجاوز التحدي اليوم مجرد رفع وعي طائفة معينة، بل يتمحور حول تحرير الدولة من قبضة النظام الموازي، وتفكيك الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تخضع لبنان لمنظومة لا تتوافق مع مصلحته الوطنية.
عدم تطبيق اتفاق الطائف والقرارات الدولية، وترحيل مناقشة سلاح الحزب إلى أجل غير مسمى، وقبول شعار “شعب، جيش، مقاومة”، أوصل لبنان إلى ضعف الدولة وحالة الحرب المفتوحة مع إسرائيل، ما يؤدي إلى القتل والدمار والتهجير.
لم تعد صفة “المقاومة” تعكس واقع الحزب اليوم، إذ تحول دوره من مقاومة الاحتلال إلى أداة نفوذ داخلي وإقليمي. انعكست سياساته على لبنان سلباً، فأضرت باقتصاده، وأبعدته عن محيطه العربي، وأضعفت سيادته.
منح الحزب سلاحه صفة “القداسة”، ما جعل مناقشة الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية معه شبه مستحيلة، خصوصاً بعد عدوان 2006. وفي هذا السياق، قوّض الحزب اتفاق إعلان بعبدا، رغم موافقته عليه مبدئياً، وفرض كانتوناً طائفياً غير معلن في مناطقه، مما حدّ من التنوع الاجتماعي والسياسي.
إرادة الشعب اللبناني هي العامل الحاسم في مواجهة هذا الواقع فالقلق الوطني على مستقبل لبنان ومكانته حقيقي، ويتطلب العمل على توحيد الصفوف لبناء دولة قوية تكون المرجعية الوحيدة لشعبها. لن يستعيد لبنان استقراره ودوره إلا من خلال دولة تتحكم بقرارها السيادي، وتحمي أمنها واستقلالها، بعيداً عن أي نظام موازٍ أو هيمنة خارجية.