كتب نقولا ناصيف في اساس ميديا :
عندما كان الرئيس السابق للبرلمان الراحل حسين الحسيني يُسأل عمّا اتّفق عليه في اتّفاق الطائف ولم يُدرج في وثيقة الوفاق الوطني، كان يتطرّق إلى مسائل ثلاث يجزم ببتّها والاتّفاق عليها: لا يقلّ أعضاء الحكومة عن 14 وزيراً كي يتاح تمثيل الأرمن فيها، ولا حقيبة لرئيس مجلس الوزراء مكتفياً برئاسته مجلس الوزراء والإشراف على أعمال المجلس، ووضع حقيبة المال في الطائفة الشيعية.
في كلّ تأليف للحكومة معضلة اسمها وزارة المال. منذ عام 1992 تكبر أو تصغر. يصير إلى التنازع عليها كما التوافق من حولها. واكبت اتّفاقيْ الطائف والدوحة وظلّت مشكلتهما. في السنوات الأخيرة صارت عبئاً على كلّ رئيس مكلّف: إمّا تكون للشيعة وفي حصّة رئيس البرلمان نبيه برّي أو حتّى لا حكومة. لكنّها شرّعت باستمرار سجالاً أداره أكثر من طرف سياسي: هل لطائفة من دون سواها تخصيصها بحقيبة لا تذهب إلّا إليها؟
ما غدا قاعدة أخيراً لم يكن كذلك في حكومات ما بعد اتفاق الطائف، ولا عرفت حتماً حكومات ما قبله المعضلة نفسها، ولا ما يسمّى اليوم الحقائب السيادية الأربع، ولا خُصّصت حقيبة لطائفة. تقلّب الدروز على حقيبتَيْ الداخلية والدفاع ككمال جنبلاط ومجيد إرسلان وبهيج تقيّ الدين وبشير الأعور، والكاثوليك على حقيبة الخارجية كفيليب تقلا وهنري فرعون وخليل أبوحمد ونصري المعلوف وجوزف سكاف.
كلتا الطائفتين هاتين لا حظوظ لهما بعد اتّفاق الطائف في الحصول على إحدى الحقائب الأربع السيادية (الخارجية والدفاع والمال والداخلية). آخر مرّة منذ إقرار اتّفاق الطائف، قبل إدماج إصلاحاته في الدستور عام 1990، آخر وزير كاثوليكي لحقيبة سيادية هي الدفاع كان ألبير منصور. بعدذاك مع حكومة عمر كرامي خلفاً لحكومة سليم الحص، حُجزت الحقائب السيادية الأربع للطوائف الرئيسية الأربع.
منذ حكومة تمّام سلام إلى الحكومة المستقيلة الحالية لنجيب ميقاتي لم تعد الحقيبة تتزحزح عن الشيعة من ضمن حصّة برّي حصراً
هؤلاء تولّوا الحقيبة بعد الطّائف
حقيبة المال إحداها. أُعطيت في حكومتَيْ الحص (1989) وكرامي (1990) لعليّ الخليل، ثمّ في حكومة رشيد الصلح (1992) لأسعد دياب، على أنّ تواليها ثلاث مرّات فاتحة لتكريسها للطائفة الشيعية، قبل أن تؤول إلى رفيق الحريري رئيساً للحكومة ووزيراً للمال مع أولى حكوماته (1992)، وأحدث سابقة تكليف وزير دولة هو فؤاد السنيورة مهمّة الشؤون المالية مفوّضاً إليه لاحقاً صلاحيّاته فيها.
بقيت الحقيبة سنّيّة في الحكومات الثلاث للحريري (1992 و1995 و1996)، ثمّ في الحكومتين الأخيرتين بعد عودته إلى السراي (2000 و2003) حتى اغتياله، ما خلا استثناءً أوّل حدث بحلول الماروني جورج قرم فيها في حكومة الحص (1998) ثمّ الأرثوذكسي الياس سابا في حكومة كرامي (2004).
بعدذاك أُبعدت الحقيبة عن الشيعة فتقلّب عليها موارنة كدميانوس قطّار وجهاد أزعور (2005) وسُنّة كمحمد شطح (2008) وريّا الحسن (2009) ومحمد الصفدي (2011). منذ حكومة تمّام سلام (2014) إلى الحكومة المستقيلة الحالية لنجيب ميقاتي (2021) لم تعد الحقيبة تتزحزح عن الشيعة من ضمن حصّة برّي حصراً: علي حسن خليل (2014 و2016 و2019) وغازي وزني (2020) ويوسف خليل (2021).
رواية برّي
يروي رئيس البرلمان نبيه برّي لـ”أساس” قصّة حقيبة المال:
“كنت على علم بما اتّفق عليه في مداولات اتّفاق الطائف عن تخصيص الحقيبة للطائفة الشيعية. بعد انتخابي رئيساً للمجلس في تشرين الأوّل 1992 أوفدت الأمين العامّ عاطف جانبيه إلى الرئيس حسين الحسيني للحصول على محاضر اتّفاق الطائف، لوفرة ما كان يقال فيه وعنه حيال الصلاحيّات وتفسير بنود الدستور والتباساتها، بغية الاطّلاع على ما ورد في المناقشات وروحيّة المشترع، وهو ما نعاني منه منذ سنوات إلى اليوم. لم يستجب الحسيني لطلبي بحجّة أنّ النواب المجتمعين هناك تجرّأوا في الكلام ممّا ما لا يمكن كشفه أمام الرأي العامّ”.
عام 1992 مقايضة وزارة المال بالصلاحيات الاشتراعية: لا هذه ولا تلك
يضيف: “فيما بعد، في لقاء لي مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل سألت عن احتفاظ المملكة بنسخة عن المحاضر، خصوصاً أنّ المداولات ثمّ الموافقة على الاتّفاق تمّت على أراضيها. لم يجِب. عندئذ صرفت النظر عنها. عندما باشر رفيق الحريري استشارات تأليف أولى حكوماته اتّفقت معه على أنّ الحقيبة للشيعة بعدما رأسها شيعي في الحكومات الثلاث التي سبقت. سمّيت له رضا وحيد، فوافق. ذهب إلى الياس الهراوي لإصدار المراسيم على أن أُدعى بعد إنجازها إلى الاطّلاع عليها وإبداء ملاحظة إذا كان ثمّة موجب لها دونما أن يكون الرئيسان ملزمين برأيي، ثمّ أغادر من دون الإدلاء بأيّ تصريح”.
يقول الرئيس برّي أيضاً: “قبل ذهابي إلى المقرّ الرئاسي سمعت من وسائل الإعلام مراسيم الحكومة وفيها رفيق الحريري وزير للمال عوض رضا وحيد، وفؤاد السنيورة وزير دولة للشؤون المالية خلافاً لما اتّفقنا عليه. في المقرّ الرئاسي سألني عن امتعاضي وطمأنني إلى أنّ وجوده هو فيها أفضل ممّا لو حلّ آخر سواه وأكثر اطمئناناً لي. قلت له اتّفقنا قبلاً على مسألتين: أنت تريد الصلاحيات الاشتراعية للحكومة وأنا أريد وزارة المال. لم تلتزم. الآن لا هذه ولا تلك. قال إنّه لا علم له بإقرار الحقيبة في مداولات الطائف للطائفة الشيعية، فرددت: أنت لا تعرف! الياس الهراوي ألا يعرف وكان هناك؟”.
الياس الهراوي نسي!
يروي: “لاحقاً قال الياس الهراوي إنّه نسي. وافقت على التقاط الصورة التذكارية وتوجّهت للفور إلى المصيلح. ذهب رفيق الحريري إلى دمشق التي دعتني إليها. قابلت حكمت الشهابي أوّلاً متحدّثاً أمامي بمقدّمة طويلة عن أنّني عربي وغير طائفي، قبل أن أجيب أنّني غير طائفي مع مَن هو غير طائفي. اجتمعت بعبدالحليم خدّام قبل أن ينتقل إلى غرفة مجاورة ليجري مكالمة عاد بعدها يقول لي: سيادة الرئيس في انتظارك”.
برّي: حصولي على حقيبة المال ليس تكريساً للمثالثة ولا للمرابعة. بُتت في الطائف
يقول: “ذهبت إلى حافظ الأسد الذي سألني: أليس من حلّ للمشكلة؟ فأجبت أنّ المجلس النيابي المنتخب حديثاً مطعون في شرعية تمثيله ولا يمكنه مع بدء ولايته التنازل عن صلاحية التشريع المعطاة له للحكومة، كما لو أنّه يستغني عن دوره، ويؤكّد التهم المسوقة إليه. اطّلع الرئيس السوري على المشكلة قبل أن يقول لي أخيراً: لا تعطِه. في طريق العودة كنت ورفيق الحريري في سيّارة واحدة بناء على طلبه لتبديد أيّ انطباع لدى اللبنانيين أنّنا على خلاف. طوال المسافة بين دمشق وبيروت راح يحدّثني عن طلبه الصلاحيّات الاشتراعية وإصراره عليه، فلم ألِنْ ولم يحصل عليها”.
يضيف برّي: “حصولي على حقيبة المال ليس تكريساً للمثالثة ولا للمرابعة. بُتَّت في الطائف ولم تناقش فحسب، ولذا أتمسّك بها”.
يُسأل أخيراً: “هل هو في وارد إعطاء حكومة نوّاف سلام صلاحيات اشتراعية لم يسبق أن أعطاها لأيّ من حكومات ما بعد اتّفاق الطائف، وهو على رأس السلطة الاشتراعية على مرّ العقود الأخيرة، دونما أن يكظم عدم ترحيبه بها، وأنّ ضامناً حقيبة المال لديه؟”، فيردّ: “الكلمة للهيئة العامّة للمجلس. تعطي أو لا تعطي”.