سلايدات

سوريا على أعتاب النهوض: تحديات الحاضر وآفاق المستقبل

كتب الدكتور وسام صافي في الاقتصاد والاعمال:

بعد أكثر من عقد من الصراع الدموي الذي ألحق دمارًا شاملًا بالبنية التحتية وأحدث شروخًا عميقة في النسيج الاجتماعي، تواجه سوريا اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث، حيث تتشابك التحديات الاقتصادية والاجتماعية مع الحاجة الملحّة لإعادة بناء الدولة والمؤسسات، في وقت تزداد فيه آمال الملايين من السوريين في استعادة حياة كريمة ومستقرة. الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلًد لم يكن مجرد تراجع مؤقت بل وصل إلى مستويات كارثية، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 64 في المئة منذ بداية الأزمة عام 2011، وفقدت العملة الوطنية قيمتها بشكل غير مسبوق في عام 2023 وحده، مما أدى إلى تضخم خانق ألقى بظلاله على الحياة اليومية للسوريين. ومع تجاوز معدلات الفقر المدقع 40 في المئة في عام 2024، أصبحت سوريا نموذجًا للأزمات المتشابكة التي تحتاج إلى رؤية شاملة ومنهجية للمعالجة.

انعكاسات الصراع

لم يكن الصراع في سوريا مجرد معركة على الأرض، بل كان حربًا على حياة الناس ومعيشتهم وكرامتهم، حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 16.7 مليون شخص باتوا بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، في حين أن أكثر من نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل يومي، مما جعل الأزمة الإنسانية في سوريا واحدة من أكبر الأزمات التي شهدها العالم في العصر الحديث. علاوة على ذلك، أدى النزوح الجماعي، سواء داخليًا أو إلى خارج البلاد، إلى تفكيك المجتمعات المحلية وإضعاف البنية الاجتماعية، حيث أصبحت الملًيين من الأسر بلا مأوى أو مستقبل واضح. وفي ظل هذا الواقع، تأثرت التجارة والصناعات المحلية بشكل كبير، حيث انخفضت الصادرات والواردات إلى مستويات غير مسبوقة، مما جعل الاقتصاد السوري يعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية.

بينما يبدو المشهد السوري اليوم قاتمًا، فإن المستقبل لا يزال مفتوحًا على خيارات عديدة، تعتمد بشكل رئيسي على القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سيتم اتخاذها في المرحلة المقبلة. يشير الخبراء إلى وجود ثلاث مسارات رئيسية قد تأخذها سوريا: الأول هو تحقيق انتقال مستقر وشامل يتطلب إصلاحات جذرية على مستوى الحكم والعدالة والتنمية، مما قد يؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام وتقليل معدلات الفقر بشكل تدريجي. المسار الثاني يتمثل في استمرار حالة الجمود السياسي والتوترات، مما سيجعل التعافي محدودًا للغاية مع اعتماد شبه دائم على المساعدات الإنسانية. أما السيناريو الثالث والأكثر خطورة فهو تصاعد الأوضاع نحو مزيد من التفكك، حيث قد تنهار الدولة بشكل كامل، مما يهدد بانتشار الفوضى الأمنية والاجتماعية في المنطقة بأسرها.

نحو إعادة بناء الاقتصاد

إن الخروج من هذا الوضع الكارثي يتطلب استراتيجيات واضحة تستهدف بشكل متزامن التدخلات العاجلة والإصلاحات الهيكلية طويلة الأجل. على المدى القصير، ينبغي التركيز على إعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية، مثل شبكات المياه والكهرباء، لضمان تلبية الاحتياجات الحيوية للسكان، بالإضافة إلى استعادة الخدمات الأساسية التي تُمكن الناس من العيش بكرامة. كما ينبغي إطلاق برامج توظيف طارئة تسهم في خلق فرص عمل مباشرة للفئات الأكثر ضعفًا، بما في ذلك النازحين والعائدين إلى مناطقهم الأصلية. وعلى المدى الطويل، يتطلب التعافي الاقتصادي التركيز على إعادة بناء المناطق الصناعية المدمرة، مثل تلك الموجودة في حلب وحمص، مع توفير حوافز استثمارية لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد مستدام.

لا يمكن تحقيق أي تقدم ملموس في سوريا دون إعادة بناء مؤسسات الدولة لتكون قادرة على تقديم الخدمات بفعالية وتحقيق العدالة لجميع المواطنين. ويتطلب ذلك تبني إصلاحات جذرية تشمل وضع أنظمة لمكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد العامة، وتطوير آليات فعالة لتقديم الخدمات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية. كما ينبغي العمل على تحقيق اللامركزية في الحكم، حيث يتم تمكين السلطات المحلية لتكون قادرة على تلبية احتياجات مجتمعاتها بشكل أسرع وأكثر كفاءة، مع ضمان التكامل بين المستويات المختلفة من الإدارة.

تعزيز المصالحة الوطنية

إن إعادة اللحمة الوطنية في سوريا تحتاج إلى جهود حثيثة لمعالجة المظالم التي تعمقت خلال سنوات الصراع، حيث إن إطلاق آليات عدالة انتقالية موثوقة يمكن أن يسهم في تخفيف الاحتقان وبناء الثقة بين مختلف الفئات. كما أن تشجيع الحوار بين المجموعات المختلفة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، يمثل خطوة حاسمة نحو بناء مجتمع متماسك قادر على تجاوز التحديات. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إعطاء الأولوية لدعم الفئات الأكثر تضررًا، مثل النازحين واللاجئين والمجتمعات المهمشة، من خلال برامج تأهيلية تركز على تمكينهم من لعب دور فاعل في عملية التعافي.

في ظل التعقيدات الجغرافية والسياسية للأزمة السورية، فإن تحقيق التعافي المستدام لن يكون ممكنًا بدون دعم إقليمي ودولي قوي. فتح قنوات جديدة للتجارة مع الدول المجاورة، مثل لبنان والأردن وتركيا، قد يسهم في تعزيز الاقتصاد السوري، بينما يمكن أن توفر المساعدات الدولية والإقليمية الموارد المالية اللازمة لإعادة الإعمار. علاوة على ذلك، فإن التعاون مع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، يمكن أن يضمن تنفيذ استراتيجيات التعافي بكفاءة وشفافية، مع وضع معايير تضمن تحقيق العدالة والإنصاف لجميع السوريين.

في خضم هذه التحديات الهائلة، يبقى الأمل في بناء مستقبل أفضل لسوريا أمرًا ممكنًا، ولكنه يتطلب إرادة سياسية قوية وتعاونًا دوليًا وإقليميًا جادًا. إعادة بناء سوريا ليست مجرد مشروع اقتصادي أو سياسي، بل هي رحلة نحو استعادة كرامة الإنسان السوري ووضع أسس دائمة للسلام والازدهار. ومن خلال تبني رؤية شاملة تركز على المصالحة الوطنية، والتنمية الاقتصادية، وإصلاح الحكم، يمكن لسوريا أن تتجاوز محنتها الحالية لتصبح نموذجًا للإرادة الإنسانية في التغلب على الأزمات الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى