
كتبت جوانا فرحات في المركزية:
قبل تغيير النظام في سوريا كان الكلام عن الحدود الشرقية – الشمالية بين لبنان وسوريا محصورا بعمليات تهريب الكبتاغون من الجانب اللبناني الى سوريا ومنها الى دول الخليج والدول العربية والمملكة العربية السعودية مما خلق أجواء مشحونة بين لبنان وهذه الدول التي كانت تطالب بضبط الحدود ووقف عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية من خلال حزب الله.
التهريب شمل ايضا البشر والمحروقات وصولا إلى السلاح. إلا أن التغيير الذي بدأ مع سقوط نظام الأسد وتولي أحمد الشرع قيادة الإدارة السورية الجديدة غيَّر الكلام. فالجيش اللبناني الذي اتخذ نقاط تمركز نتيجة تصاعد حدة الإشتباكات عكس أجواء من التفاؤل علما أن ما يحصل في القرى اللبنانية الموجودة في الداخل السوري من ممارسات بحق أهالي وأشخاص من الطائفة الشيعية يرسم علامات استفهام حول ما إذا كانت استفزازية أو رد فعل إنتقامي من قبل قوات الإدارة السورية الجديدة مما يتطلب إعادة خلط الأوراق والتفاوض مع الجانب السوري على قواعد جديدة.
الثابت ان الإشتباكات الأخيرة التي اندلعت على الحدود الشمالية منذ الخميس 6 شباط أعادت الحرارة إلى الحديث عن الحدود البريَّة المتداخلة بين لبنان وسوريا، ونقاطها الضائعة، من تلال كفرشوبا وشبعا جنوبًا، إلى السلسلة الشرقيَّة حيث تبدأ النقاط الخلافية هناك من قرى قضاء الهرمل مرورًا ببلدات القاع، رأس بعلبك، عرسال وصولًا إلى بلدة معربون، ما يتسبب بخلافات ومشاكل تؤدي إلى سقوط قتلى في صفوف المدنيين وشهداء في الجيش اللبناني.
وليس خافيا أن ملف ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، خصوصًا في الشرق والشمال، هو شائك ويعود إلى فترة ما قبل استقلال البلدين، لكنه بقي معلقًا في كثير من جوانبه حتى اليوم. فبعد إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، رسمت سلطات الانتداب الفرنسي حدودًا إدارية بين لبنان وسوريا، لكنها لم تكن حدودًا دولية نهائية. وشهدت بعض المناطق مثل وادي خالد، وقرى في قضاء الهرمل وعكار، تداخلاً سكانياً بين البلدين، ما جعل مسألة ترسيم الحدود أكثر تعقيدًا.
المؤرخ والباحث اللبناني المتخصص في قضايا الحدود الدكتور عصام خليفة، يؤكد أن مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ليست معقدة من الناحية التقنية، لكنها تعاني من غياب الإرادة السياسية، خاصة من الجانب السوري. ويشير إلى أن عملية تحديد الحدود بدأت منذ العام 1920 خلال فترة الانتداب الفرنسي، وتم تحقيق تقدم كبير في هذا المجال، إلا أن الترسيم النهائي لم يكتمل بسبب تراجع الجانب السوري عن الاتفاقات المبرمة.
ومع التغيرات السياسية في سوريا، يلفت خليفة إلى الخطوات العملية الواجب أن تتخذها الدولة اللبنانية في هذا الاتجاه، موضحاً أن هناك 12 قرية لبنانية داخل الأراضي السورية، وجميع سكانها من الطائفة الشيعية وما يحصل اليوم من اشتباكات بين أبناء هذه القرى وقوات تابعة للإدارة السورية الجديدة يهدف إلى إعادة ترتيب الأمر ووقف عمليات التهريب التي نشطت في عهد النظام السوري السابق ويجب حلها بالتفاوض والحكمة.
آخر اتفاق ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا حصل عام 1967 وذهب إلى اعتماد حدود خراجات القرى، لكنه لم يحل الخلاف على 36 نقطة حدودية، لأن المشكلة دائماً كانت أن النظام السوري السابق لم يكن يعترف بلبنان أصلًا، بل اعتبره على الدوام أرضا سُلِخَت منه ويجب استعادتها.
ويلفت خليفة إلى أمر في غاية الأهميَّة هو محاضر التحرير والتحديد. “فعندما تم تعيين قاضيين عقاريين لبناني وسوري للنظر في القضيَّة، حققا عدة نجاحات وتفاهمات مثل نقاط عين القبو وبئر جْبَيْب في السلسلة الشرقيَّة لكن دائما ما كان النظام السوري يتراجع مرة بذرائع المياه ومرة بعدم الوضوح وأحيانا من يدفع بدل أتعاب العاملين”.
وتتضمن محاضر التحديد والتحرير معلومات مفصلة حول الحدود، منها تحديد النقاط الحدودية باستخدام خطوط الطول والعرض. المعالم الطبيعية كمثل استخدام الأنهار، والجبال، والتلال كمعالم لتحديد الحدود، والمعالم الاصطناعية، واستخدام الطرق، والجسور، والمعالم البشرية الأخرى كنقاط مرجعية، المناطق والقرى المحاذية للحدود لتجنب أي التباس، وتواقيع الممثلين الرسميين للدول المعنية للمصادقة على المحاضر.وتُعتبر هذه المحاضر مرجعاً قانونياً يُستند إليه في حال نشوء أي نزاعات حدودية مستقبلية بين الدول.
في خطاباته يشدد قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع على ضرورة “احترام السيادة”. وفي السياق يقول خليفة” من يحترم السيادة يحترم الحدود .والسيادة هي جوهر الدولة والحدود تحدد الدولة”. إنطلاقا من ذلك يعتبر أن الترسيم يمكن أن يتم بسهولة من خلال تشكيل لجان مشتركة تضم مسّاحين ومهندسين وخبراء من البلدين، بالاعتماد على الخرائط والإفادات العقارية المتوفرة في دوائر البلدين، أضف إلى ذلك أن الحدود اللبنانية السورية تمتد على مسافة 375 كيلومترا، وأن الدستور اللبناني يحدد هذه الحدود بشكل عام، لكن لم يتم ترسيمها بدقة على الأرض، مما أدى إلى مشاكل وتداخلات في بعض المناطق”.
عام 2008 في عهد الرئيس ميشال سليمان تمَّ الإتفاق على تفعيل عمل اللجنة المشتركة بين البلدين لترسيم الحدود، إلا أنها لم تحقق شيئاً خلال اجتماعاتها، السلطة اللبنانية كانت تتذرَّع بأن الخلاف مع سوريا على مُلكيَّة مزارع شبعا يستفيد منه العدو، لذلك الأفضل تأجيل الترسيم لما بعد تحريرها، الأسباب حينها كانت تتراوح بين محاباة سلطة الوصاية طمعًا بمكاسب سلطوية من البعض، والبعض الأخر لأهداف ومشاريع أكبر من لبنان وأبعد من حدوده.