سلايدات

الترامبية: عندما يُجلد القاضي ويُطلق السّفّاح؟

كتب أمين قمورية في اساس ميديا : 

لا يكفّ دونالد ترامب عن إدهاش العالم وإفزاعه. لا يشبه أحداً ممّن سبقوه. ظاهرة في الحكم قد تصير مثالاً لطامحين كثر يملكون مثله شهوة السلطة والتسلّط والتحكّم بالبشر وهتك المسلّمات والقوانين والشرائع.

 

آخر “مآثر” ترامب السورياليّة إدراج اسم المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان على قائمة العقوبات الخاصّة بمكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، بعد محاكمة المحكمة نفسها. لم يفعل ذلك حماية لأميركا وسياساتها وجنودها. فعلها كرمى لسفاح أقدم على جرائم حرب وإبادة وجرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزة والضفّة الغربية ولبنان.

الرسالة واضحة لا لبس فيها. ليست أميركا وحدها فوق القانون الدولي، بل إسرائيل أيضاً وقادتها ومجرموها خارج المحاسبة والمساءلة ويُمنع لمسها ولمسهم. وكلّ من تسوّل له نفسه مسّهم أو مسّها، يفرض عليه وعلى أفراد عائلته العقاب والانتقام الجماعي.

نقلة أميركية قالت عنها الدول الـ 79 الأعضاء في المحكمة إنّ من شأنها أن “تزيد من خطر الإفلات من العقاب على أخطر الجرائم، وتهدّد بتقويض سيادة القانون الدولي”. وكانت المحكمة تعهّدت توفير العدالة والأمل لملايين الضحايا الأبرياء للفظائع في جميع أنحاء العالم.

“العدالة” الترامبيّة منهج لاقانونيّ خاصّ بصاحبه. يوضع القاضي في قفص الاتّهام ويُجرّم ويدان ويُحاسب لأنّه جرؤ على اتّهام بنيامين نتنياهو بارتكاب الفواحش الجرميّة في غزة، ويُفرَج عن السفّاح نفسه وتُطلق يده لمواصلة جرائمه بعد إلباسه “روب” العدالة. مشهد لا سابق له ولا مثيل، حتّى في محاكمات الخمير الحمر الكمبوديّة، ولا في أقواس محاكمات عبّاس المهداوي العراقية.

لا يدرك معنى الأوطان

تزامنت هديّة ترامب لنتنياهو مع هديّة مماثلة للمطلوب الآخر للمحكمة الجنائية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أجرى ترامب لمدّة تسعين دقيقة مكالمة معه “طمأنه” فيها إلى متانة علاقتهما، وكأنّه يقول بذلك للعالم أجمع: هؤلاء الطغاة هم أصدقائي، ومن كان ضدّهما فهو ضدّي، وعلى العدالة الدولية السلام!

ما يفعله ترامب ضدّ محكمة الجنايات الدولية وقضاتها يكمل ما بدأه من مشاريع لتصفية قطاع غزّة، ومعه القضيّة الفلسطينية

ما يفعله ترامب ضدّ محكمة الجنايات الدولية وقضاتها يكمل ما بدأه من مشاريع لتصفية قطاع غزّة، ومعه القضيّة الفلسطينية، وبيعه في بازار المزايدات العقارية وترحيل أهله. ولا ينفصل عن حروبه ضدّ الأوطان والمنظّمات الدولية والوكالات العالمية التي لا تساير أهواءه الشيطانية ولا تتوافق مع رغباته الشخصية. كيف له أن يدرك مغزى وضرورة وجود مؤسّسات دولية مثل منظّمة الأمم المتّحدة ومنظّمة الصحّة العالمية ومعاهدة باريس للمناخ واتّفاق التجارة الحرّة لأميركا الشمالية ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ووكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، وهو أصلاً لا يعرف معنى التعاون ولا حتى معنى وجود أوطان. يقول للكندي والباناميّ والغرينلانديّ: تفضّلوا معنا وانضمّوا إلى أميركا وصيروا أميركيين، ويقول للغزّيّ: إرحل إلى بلاد جديدة، متجاهلاً أنّ لهؤلاء في أرضهم تاريخاً طويلاً مشتركاً من الحبّ والحياة والموت والنضال والأمل والحنين والطموحات المشتركة!

ترامب

يتباكى ترامب على أوضاع أهل غزّة ويعدهم بحياة أفضل خارج القطاع، فيا ليته يولي اهتمامه بأوضاع المتضرّرين من حرائق لوس أنجلوس والمشرّدين في أميركا.

لا تخضعوا!

عودته إلى البيت الأبيض وانفلاشه السريع على الانتقام من معارضيه وضرب الأسس السياسية السابقة وصوغ مفاهيم سلطويّة خاصّة تسقط مقولة ترى أنّ وصوله الأوّل إلى سدّة الحكم كان إخفاقاً صغيراً أو نزوة في المسار السياسي الديمقراطي الأميركي، وتكرّس حقيقة أنّ النظام الديمقراطي نفسه في خطر وفي أزمة شديدة، وأنّ أميركا التي سوّقت نفسها للعالم كحامية للعدالة والديمقراطية تكشف عن وجه آخر، ربّما هو وجه حقيقي سعت طويلاً إلى إخفائه بمساحيق التجميل. لم يخلق ترامب أزمة بل هو نتاج خالص للأزمة. ولا شكّ أنّ الحرب على غزة ساهمت في إذابة المساحيق والكشف عن الوجه الأميركي الآخر.

 لم يخلق ترامب أزمة بل هو نتاج خالص للأزمة. ولا شكّ أنّ الحرب على غزة ساهمت في إذابة المساحيق والكشف عن الوجه الأميركي الآخر

لم تعد الترامبيّة فكرة عابرة، بل صارت تجسيداً لديناميّة بنيوية داخلية تأخذ خطّاً متطرّفاً ضدّ المؤسّسات السياسية المحلّية والدولية وضدّ القيم الديمقراطية والليبرالية، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وتعكس حالة قلق لدى شرائح اجتماعية كبيرة في الداخل الأميركي، وتترجم انحيازاً سافراً لمجرمي الحرب من مثال نتنياهو، ومجاهرة بالتطهير العرقي في فلسطين، وعبثاً بالجغرافيا والتاريخ ورسم خرائط جديدة للعالم، واحتقاراً للمنظّمات الدولية ووكالات المساعدة والتنمية الأميركية في الخارج، ونسفاً لقيم وثقافات رسمت علاقة الأميركيين بعضهم ببعض وعلاقة أميركا بالعالم.

يقول رئيس الوزراء الأسترالي السابق مالكولم تيرنبول، الذي اشتبك مع ترامب خلال ولايته الأولى، إنّ الرئيس الأميركي الحالي “هو بلطجيّ متنمّر وشخصية تحبّ السيطرة”، ويضيف: أغلب السياسيين الذين يتعاملون معه يعتقدون أنّ الطريقة المثلى للتعامل معه هي الخضوع له وإخباره ما يريد سماعه. لكنّ ردّة فعله تكون المزيد من التنمّر وفرض إرادته.

عليه يدعو تيرنبول قادة العالم إلى عدم الخضوع له من أجل كسب احترامه، ويقول: “قفوا في وجهه وارفضوا الخضوع للتنمّر”.

لمّا كان العرب اليوم هم هدف مباشر لتنمّر ترامب، حيث أسقط ورقة التوت الأخيرة وكشف بوضوح عن رؤيته للتلاعب ببلدانهم وتغيير الخرائط ورسم شرق أوسط جديد تكون لإسرائيل الكلمة الفصل فيه، فليس المطلوب اليوم في قمّتهم المقبلة موقف جماعيّ ضدّ سياساته فقط، بل المطلوب الأخذ بنصيحة سياسيّ أسترالي مجرّب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى