
كتب رفيق خوري في نداء الوطن :
خيار “حزب الله” وقراره، مهما أوحى أن اهتماماته اللبنانية صارت من الأولويات، هو التزام ولاية الفقيه والاستراتيجية الإقليمية الإيرانية. وليس المشهد المهيب لتشييع السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين سوى “رسالة” بصوت عال جداً إلى الداخل والخارج تقول إن “المقاومة الإسلامية” ثابتة والتحولات المعاكسة متغيرة. لكن قراءة الرسائل في الهواء الطلق وسط رياح تفتقر إلى العمق في قراءة الأحداث. فلا “محور المقاومة” محصّن من التأثر بما جرى في غزة ولبنان وسوريا ويجري في العراق. ولا جمهورية الملالي في إيران تستطيع أن تتجاوز خسارة الجسر السوري، وأن تجابه أميركا بالفعل، وهي تقول بلسان الرئيس مسعود بزشكيان: “نريد التفاوض مع أميركا، لكن ترامب يضع يده على رقابنا”.
والبعد الآخر لمشهد التشييع هو توظيف تضحيات المقاومين الذين واجهوا العدو المتفوق في “تأبيد” واقع المقاومة وصنع أسطورة البطل انطلاقاً من سيرته. ومن السهل على أي طرف أن يؤسس أسطورة خاصة به يشد بها عصب أهله ويصفهم بأنهم “أشرف الناس” بمبالغات مهينة للشركاء في الوطن. لكن التحدي الكبير والصعب هو صنع أسطورة للشعب بكل أطيافه. إذ “كل أمة تصنع أسطورة تاريخية تعزز الاعتقاد بأن مواطنيها موحدون ومنتصرون”، كما يقول بنديكت أندرسون في كتاب “مجتمعات متخيلة”. ولبنان في حاجة إلى أسطورة وطنية تلهم كل الطوائف والأحزاب والتيارات بدل أن تلجأ كل طائفة إلى أسطورة خاصة بها تزيد من الانقسام والافتراق داخل “وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات”، حسب الدستور.
والواقع أن لبنان يفتقد إلى ثلاثة أمور أساسية هي عماد أي وطن ودولة على قياسه. أولها هو الأسطورة الوطنية التي يفاخر بها الجميع. وثانيها هو “الحقيقة اللبنانية” التي تصورنا أحياناً أننا نعرفها ونؤمن بها لنكتشف أن في لبنان حقائق متعددة ليست حتى أنصاف حقائق، وبعضها من النوع المسمى في أميركا “الحقيقة البديلة” بتعبير مهذب ودبلوماسي عن الكذبة. وثالثها هو “رأس المال الاجتماعي” على حد التعبير الذي استخدمه فرنسيس فوكوياما. فنحن في أزمة اجتماعية عميقة أثّرت كثيراً على النشاط الاجتماعي كرأسمال وطني، إلى جانب الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية الخطيرة. ونحن نفتقد إلى ما كان قبل الحرب من نقاش ثقافي وصراع فكري بين الأحزاب التي كانت تضم مفكرين وكتاباً وشعراء، فصارت فقيرة بهم وغنية بالمتعصبين الجهلة والمقاتلين.
وليس أهم في بناء الدولة من ملء الفراغ الرئاسي والحكومي سوى مراجعة الماضي للتعلم من الأخطاء. لكن إعادة النظر تبدو محدودة. فمن يعيدون النظر عادة هم المهزومون وليس المنتصرون. واللبنانيون جميعاً، على طريقة “حزب الله”، “منتصرون” لا أمل في أن يقدموا مراجعة. حتى مرحلة اللايقين في البلد، فإنها مملوءة بسياسيين وأشباه سياسيين يثرثرون بكل المواضيع ويدعون أنهم يعرفون كل شيء. يقول جو كوكتو: “أُفضّل الأسطورة على التاريخ”. لماذا؟ لأن “التاريخ ينطلق من الحقيقة في اتجاه الكذب، والأسطورة تنطلق من الكذب في اتجاه الحقيقة”. فما العمل إذا كنا نواجه مشكلة في الأسطورة والتاريخ؟