
لكنّ الأمير محمّد بن سلمان قلب الطاولة: رفض إعلان أيّ التزام بالتطبيع، رفع سقف الشروط إلى التزام أميركيّ واضح بإقامة دولة فلسطينيّة وطالب بمسار نحو حلّ الدولتين لا رجعة فيه ومؤطّر زمنيّاً.
أجهضت هذه المقاربة الجديدة الرهان الإسرائيليّ على ورقة التطبيع، خصوصاً في توقيت يتزامن مع دخول إسرائيل موسم انتخابات يَعُدّ فيه بنيامين نتنياهو أيَّ مكسب إقليميّ “أوكسيجينَ سياسيّاً”.
ليست مشكلة إسرائيل في الرفض السعوديّ العلنيّ بل خشيتها من تآكل نفوذها في واشنطن لمصلحة قوّة عربيّة صاعدة بنفَس جديد. أكثر ما يُقلقها أنّ الرياض حصلت على طائرات “إف-35” المقاتلة، قدرات نوويّة مدنيّة وإمدادات قيّمة من الرقائق الإلكترونيّة، واتفاقية دفاعية من دون تقديم أيّ ثمن سياسيّ.
هزيمة لإسرائيل بالنّقاط
صرّح مصدر دبلوماسيّ إسرائيليّ رفيع المستوى لموقع “المونيتور”: “زيارة محمّد بن سلمان للبيت الأبيض هزيمة لإسرائيل. صحيح أنّها ليست ضربة قاضية، لكنّها مع ذلك خسارة. خلاصة هذه الزيارة هي أنّ السعوديّين دفعوا ترامب لقطع الصلة بين التطبيع مع إسرائيل والجوائز والأسعار التي ستكون أميركا مستعدّة لدفعها مقابل ذلك”.
السعوديّة أصبحت قادرة على تحقيق مصالحها في واشنطن من دون المرور بإسرائيل
أضاف: “لا شكّ في أنّ الزيارة تُحدث تغييراً جذريّاً بالنسبة للسعوديّين، وتُعَدّ عاملاً حاسماً في حسم الأمور. تعطّل هذا التوازن المقدّس بين التقدّم في التطبيع وافتتاح كهف علاء الدين السحريّ”.
في غضون الأيّام الأخيرة، حفلت وسائل الإعلام الأميركيّة والإسرائيليّة بالتقارير الواردة من واشنطن عن رفض الأمير السعوديّ طلب الرئيس الأميركيّ الشروع في التطبيع. قال موقع “أكسيوس” الإخباريّ إنّ القمّة السعوديّة – الأميركيّة تناولت رغبة واشنطن في انضمام الرياض إلى اتّفاقات السلام الإبراهيميّة، غير أنّ بن سلمان رفض بـ”حزم” طلب الرئيس ترامب المتعلّق بملفّ التطبيع. وصف مسؤولان أميركيّان للموقع الأمير محمّد بن سلمان بـ”الرجل القويّ”.
أكّد الموقع أنّ وليّ العهد السعوديّ جدّد تمسّك بلاده بمواقفها الثابتة تجاه القضيّة الفلسطينيّة، التي تُعدّ إحدى أولويّات السياسة الخارجيّة للمملكة، رافضاً الخوض في أيّ خطوة تطبيعيّة قبل قبول إسرائيل بحلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينيّة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة.
بحسب الموقع، أوضح بن سلمان أنّه على الرغم من رغبته في المضيّ قدُماً نحو التطبيع مع إسرائيل، لا يزال الرأي العامّ السعوديّ معادياً بشدّة لإسرائيل في أعقاب حرب غزّة، وأنّ المجتمع السعوديّ ليس مستعدّاً لمثل هذه الخطوة حاليّاً. طالب في المقابل بأن توافق إسرائيل على “مسار لا رجعة فيه، وموثوق، ومحدّد زمنيّاً” لإقامة دولة فلسطينيّة يكون شرطاً لأيّ اتّفاق سلام مع السعوديّة، وهو ما تعتبره الحكومة الإسرائيليّة غير مقبول.
خسرت إسرائيل رهانها على إخراج السعوديّة من معادلة فلسطين وجعل التطبيع بديلاً عن الحلّ السياسيّ
نقل الموقع والصحف الإسرائيليّة عن “مصادر مطّلعة” أنّ الجلسة المغلقة التي جمعت الرئيس الأميركيّ بوليّ العهد السعوديّ اتّسمت بتوتّر واضح على خلفيّة إصرار ترامب على دفع الرياض للانضمام إلى “اتّفاقات أبراهام”. وصف “مصدر مطّلع” المحادثة بأنّها “قاسية” على الرغم من الأدب في الحوار، مشيراً إلى أنّ ترامب شعر “بخيبة الأمل والانزعاج” من الموقف السعوديّ. وصف مسؤولون أميركيّون المحادثة بأنّها “صعبة”، مشيرين إلى أنّ ترامب “أُصيب بخيبة أمل وانزعاج” من رفض بن سلمان التطبيع في الظرف الحاليّ، فيما قال مصدر ثالث إنّ التباين بين الجانبين ظهر بوضوح داخل الجلسة المغلقة.

أضافت المصادر ذاتها أنّ السعوديّين غير راضين عن غموض المادّة 19 من خطّة ترامب لوقف إطلاق النار في غزّة، التي تشير إلى “مسار مستقبليّ نحو دولة فلسطينيّة”. يريدون ضماناً أميركيّاً بإحراز تقدّم ملموس في هذه القضيّة خلال خمس سنوات. قال دبلوماسي إسرائيليّ رفيع: “سبب التغيير في الموقف السعوديّ بسيط للغاية. لقد أدركوا أنّ في إمكانهم تعزيز مصالحهم في واشنطن حتّى من دون إسرائيل، لذلك رفعوا سقف السعر”.
“إف -35” ونوويّ مدنيّ ورقائق… بلا مقابل سياسيّ
لم يحُل هذا التوتّر دون إعلان ترامب، خلال المؤتمر الصحافيّ المشترك، عزمه تزويد السعوديّة نسخة متطوّرة من الطائرات المقاتلة “إف-35”. لكنّ إسرائيل ومسؤولين أميركيّين حاولوا التقليل من أضرار هذه الصفقة على الدولة العبريّة بالقول إنّ الرياض ستحصل على نسخة مخفّفة مع الحفاظ على الميزة العسكريّة الإسرائيليّة.
صرّح الرئيس السابق لهيئة احتياط الاستخبارات العسكريّة، اللواء تامير هايمان، للقناة 12 بأنّ قدرات الرادار وجمع المعلومات الاستخباريّة للمقاتلات الشبحيّة المتطوّرة تقوّض التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ، إلّا أنّ إسرائيل زوّدت أسراب طائراتها من طراز “إف-35” ميزات فريدة لا تمتلكها أيّ دولة أخرى.
صرّح مصدر دبلوماسيّ إسرائيليّ رفيع المستوى لموقع “المونيتور”: “زيارة محمّد بن سلمان للبيت الأبيض هزيمة لإسرائيل
مقابل صفقة الطائرات جدّدت إسرائيل مطالبتها واشنطن بتعويضات في مجالات الرقائق والذكاء الاصطناعيّ والحواسيب “الكموميّة” (جيل جديد من الحواسيب يستطيع القيام بعمليات حسابية معقّدة جداً وبسرعة هائلة)، التي يُفترض أن تكون العامل الحاسم في كلّ ساحة معركة خلال العقد المقبل.
حاول مسؤولون إسرائيليّون أيضاً التقليل من شأن وعد ترامب بمساعدة الرياض على تطوير طاقة نوويّة غير عسكريّة، وقال أحدهم: “لم يُصرّح لهم ترامب بامتلاك قدرة تخصيب مستقلّة على الأراضي السعوديّة”.
لكنّ وزير الدفاع والخارجيّة الإسرائيليّ السابق، أفيغدور ليبرمان، أبدى عدم اطمئنانه قائلاً: “يتعلّق الأمر بالقوى العاملة والمعرفة التي ستكتسبها السعوديّة من خلال المفاعل المدنيّ الذي سيُبنى على أراضيها. هكذا بدأ المشروع النوويّ الإيرانيّ من خلال مفاعل مدنيّ ومن خلال المعرفة”.
مشهد سياسيّ يتغيّر
جوهر القلق الإسرائيليّ لا يتعلّق فقط بملفّ التطبيع، بل بمشهد سياسيّ وإقليميّ يتغيّر على نحو جذريّ:
– السعوديّة أصبحت قادرة على تحقيق مصالحها في واشنطن من دون المرور بإسرائيل.
– واشنطن تبدو مستعدّة لمنح الرياض ما كانت تمنحه لإسرائيل وحدها.
– التمسّك السعوديّ بحلّ الدولتين قد يعيد فتح الباب أمام مسار دوليّ لفرض الحلّ على إسرائيل.
في المحصّلة، خسرت إسرائيل رهانها على إخراج السعوديّة من معادلة فلسطين وجعل التطبيع بديلاً عن الحلّ السياسيّ. في المقابل عكست الرياض الاتّجاه، وربّما تكون قد دشّنت عهداً جديداً يعيد القضيّة الفلسطينيّة إلى قلب الحسابات الإقليميّة والدوليّة




