
كتب: سعيد الحسنية
أثار تحذّير الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، خلال مهرجان شعبي بمناسبة الذكرى الـ48 لاستشهاد القائد كمال جنبلاط، من “محاولات الاختراق الفكري الصهيوني”، واستغلال بعض الدروز كوسيلة لتقسيم سوريا تحت شعار “تحالف الأقليات”، موجة من ردود الفعل بين الجمهور العربي الغاضب والمستنكر لزيارة سوريين من الطائفة الدرزية إلى إسرائيل.
وكعادته في كل إطلالاته، يحرك وليد جنبلاط الزوابع ومحركات البحث والتساؤلات حول مقاصده ومراميه من إعادة إحياء اللحظات والأحداث التاريخية. فبعد خطابه في الذكرى ضجت منصات التواصل الاجتماعي بالمناظرات بين مؤيد ومعارض لزيارة المشايخ الدروز إلى إسرائيل، والاتهامات بسعي الدروز إلى إقامة دولة درزية قومية خاصة بهم، فهل حقا يرغب الدروز في ذلك؟ هل إقامة هكذا دولة تصب في مصلحتهم؟ هل حقاً سعت القيادات الدرزية عبر المحطات التاريخية إلى تنفيذ ذلك الأمر؟
كل ذلك يدفعنا إلى العودة إلى مضامين رسالة وليد جنبلاط حين قال: “حافظوا على إرثكم الفكري والنضالي والسياسي وتذكروا يا أهل الجبل اللاءات للدولة الدرزية التي قالها كمال كنج أبو صالح وكمال جنبلاط وكمال أبو لطيف”. فما هي قصة هذه اللاءات الثلاث؟
حول تلك اللاءات يروي النائب والوزير السابق اللواء سامي الخطيب في كتابه «في عين الحدث» قصة مخطط أعدته اسرائيل ضد لبنان وسورية ويرمي الى اقامة دولة درزية على أراضٍ لبنانية وسورية، وكيف كان له دور في احباطه. وعن تلك الخطة وكيفية افشالها يقول الخطيب: «يخطئ من يظن أن اسرائيل توقفت أو اقتنعت باستحالة تنفيذ مخططاتها الآيلة الى اقامة مجموعة من الدويلات والكيانات العنصرية والطائفية والمذهبية في دول منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد في منطقة غربي آسيا التي تضم العراق وسورية والأردن ولبنان، ولاحقاً المملكة العربية السعودية، لأن هذه المخططات تعتبر الاستراتيجية الثابتة في الفكر الصهيوني، أما التكتيك فهو يتغير ويتطور وفقاً للظروف المحلية والاقليمية والدولية.
وبعد اعلان قيام دولة اسرائيل عام 1948 واستتباب الأمر لبن غوريون ورفاقه في فلسطين، بدأ الاسرائيليون يفكرون جدياً بتقويض الكيان اللبناني، بمحاولة اقامة كيان مسيحي ماروني يتبعه مباشرة كيان درزي يمتد من الدامور مروراً بالبقاع الغربي، فالقنيطرة ثم جبل العرب مروراً بالجولان، وقد ظهر ذلك من خلال الكتب المتبادلة بين موشي شاريت وبن غوريون، حيث يتساءل شاريت عن وجود زعامة مارونية قادرة، أو حتى ضابط مسيحي من الجيش، ولو برتبة رائد ليدعموه على اقامة هذه الدولة، وفي العام 1978 اعتقد الاسرائيليون أن الرائد سعد حداد هو ضالتهم، الا أن فألهم خاب، لأن سعد حداد حصر علاقته بالاسرائيليين لتأمين حماية واستمرارية عيش جنوده وعائلاتهم من دون تطوير هذه العلاقة الى هذا المنحى».
ويضيف: «لنعد الى العام 1967 عام الحرب الحزيرانية المشؤومة، فبعدما حصد العرب تلك الهزيمة المرة، وتشتت جحافلهم على الجبهات كلها، اعتبر الاسرائيليون أن الجو العام أصبح مناسباً لبدء طرح موضوع الدولة الدرزية، فالظروف الاقليمية والدولية مواتية، والقيادة العربية السياسية الشاملة الممثلة بالرئيس عبد الناصر، تلملم شملها وتستعيد أنفاسها لتبدأ عملية ازالة آثار العدوان والبدء بتأهيل الجيش المصري وباقي القوات الجوية والبحرية، وفي يوم من شهر ديسمبر من عام 1967 اتصل بي شقيقي المحامي نزيه الخطيب وطلب مني تحديد موعد لصديقنا المحامي كمال أبو لطيف، لأنه يريد أن يبحث معي أمراً على جانب كبير من الأهمية، فحددت له الموعد في أحد مكاتبي السرية في بيروت الغربية الكائن في بناية مقابل جامع عبد الناصر على كورنيش المزرعة».
ويتابع الخطيب: «حضر أبو لطيف في الوقت المحدد وبدأ بسرد قصته على الشكل التالي:
خلال شهر أكتوبر من عام 1967 اتصل بأبو لطيف صديقه السيد كمال كنج، وهو سوري الجنسية من قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، وهو رجل معروف ووجيه في بلدته فقد كان نائباً في المجلس النيابي قبل الاحتلال، وطلب منه المجيء فوراً الى روما للتباحث بقضية مهمة جداً وعاجلة، حاول أبو لطيف معرفة السبب الحقيقي لاستدعائه من قبل كنج على هذه الصورة، فلم يفلح. وبعد الحاح من أبو لطيف أوضح كنج أنه يريد تنظيم وكالة عامة له على أراضيه التي يملكها خارج الجولان لتسوية بعض المشاكل المتعلقة بها.
لبّى أبو لطيف دعوة صديقه والتقاه في روما، واذ بالأخير يكشف له عن مشروع اسرائيلي جهنمي ليس سوى فصل من فصول استراتيجية التجزئة والتفتيت الصهيونية، والتي بموجبها تتحول دول المنطقة الى كيانات هزيلة تقوم على أسس طائفية ومذهبية وعنصرية. فقال له ان وفداً اسرائيلياً رفيعاً ضم موشي دايان وايغال آلون ومعهما ضباط استخبارات اسرائيليون، قاموا بزيارة الشيخ كنج وهو من وجهاء مجدل شمس الكبار، وقد طلب الشيخ سليمان منه كونه مثقفاً ويتقن الانكليزية حضور اللقاء للترجمة بين الشيخ والوفد الاسرائيلي.
وقال كمال كنج ان مجمل الحديث كان عن ضرورة اقامة الدولة الدرزية من الشوف حتى الجولان فجبل العرب مروراً بالبقاع الغربي وحاصبيا وراشيا، مع المبالغة من قبل الاسرائيليين، في مدح الدروز والطائفة الدرزية، وضرورة وجود دولة تضمهم جميعاً وتفتح لهم أبواب العالم ليبرهنوا عن طاقاتهم وامكاناتهم، لأن سقف لبنان وسورية بالنسبة الى الدروز هو وزير في أحسن الحالات».
ويذكر الخطيب نقلاً عن أبو لطيف: «بعد خروج الوفد الاسرائيلي من اللقاء اتفق الحاضرون، وهم الى جانب الشيخ سليمان كنج، كمال كنج، وأحمد طاهر أبو صالح، ومحمد كنج أبو صالح، بنتيجة المداولة على أن يزعم الدروز موافقتهم على العرض الاسرائيلي لتفادي التهجير والترحيل والتنكيل الذي هددهم به الاسرائيليون أثناء محاولة اقناعهم بقبول الدولة الدرزية، باعتبارها مصلحة مشتركة للدروز ولليهود في آن معاً. وكان شرط الدروز الوحيد على قبولهم المبدئي بالسير بمشروع الدولة الدرزية أن يكون كمال كنج وحده الصلة بينهم وبين الاسرائيليين، وأبلغ الجواب مع شرطهم الوحيد للضابط الاسرائيلي الدرزي في حرس الحدود الاسرائيلية الكابتن اسماعيل قبلان (الكابتن اسماعيل قبلان سوري الاصل من خارج الجولان ترك قريته بسبب خلاف محلي ولجأ الى مجدل شمس خوفاً على نفسه من الدولة في سورية، ثم التحق بالجيش الاسرائيلي الذي كان يعامل الدروز من الأساس معاملة استثنائية، ربما للوصول الى هذه النتيجة التي يعملون لها الآن).
وبعد هذا الاجتماع وبعد الرد الايجابي من دروز مجدل شمس التي هي أكبر حاضرة درزية تحت الاحتلال، دعي السيد كمال كنج الى تل أبيب ليحل ضيفاً على الحكومة الاسرائيلية، وقد لبى كمال كنج الدعوة ولاقى ترحيباً استثنائياً من المسؤولين الاسرائيليين مدنيين وعسكريين في تل أبيب، وقد حرص الاسرائيليون على اظهار ود مميز للسيد كنج وثقة باخلاصه كبيرة، وفي سياق الزيارة التي كان عرابها الاسرائيلي عقيداً في المخابرات الاسرائيلية يدعى يعقوب، طلب الاسرائيليون من كمال كنج شخصية درزية لبنانية مرموقة ومتفهمة للوضع السياسي العام في المنطقة ولمعطيات التاريخ ليصار الى تنسيق العمل الجدي معه بهدف توسيع دائرة العاملين على اقامة الدولة الدرزية رويداً رويداً ليكون التقدم بطيئاً لكن واثقاً وآمناً. ويضيف كمال كنج أثناء شرحه الموضوع لكمال أبو لطيف بأنه كان في غاية الحرج في الاجتماع الدرزي مع الاسرائيليين في مجدل شمس، لكنه كان واثقاً من أن تهربه من المهمة سيؤدي الى التنكيل به وبعائلته، وأنه حاول التملص من هذه المهمة بالأشكال كلها ولم ينجح، فقال لنفسه لماذا لا يطلب كمال أبو لطيف الى روما ويبحث معه في التفصيل جوانب هذه الورطة كلها، وهكذا لم يستطع الافصاح له هاتفياً عن حقيقة الهدف الذي يريده أن يذهب الى روما لأجله، ووجد بموضوع الأرض سبباً وجيهاً ليطلبه بسببه».
ويوضح الخطيب: «للانصاف كان أبو لطيف صريحاً جداً وواثقاً من نفسه ومن معلوماته ولم يشك أبداً بوطنية واخلاص كمال كنج لعروبته ولوطنه سورية، وأنه كان مستعداً لاتخاذ أي موقف تمليه عليه شهامته وحرصه على سلامة وكرامة وعنفوان طائفته وعروبته ووطنه سورية، واستطرد أبو لطيف ليصل الى بيت القصيد، وهو الافصاح عن رغبة العقيد يعقوب برؤيته وعرض موضوع الدولة الدرزية معه، خصوصاً أن كمال ضابط سابق في الجيش السوري ومحامٍ حالي في بيروت، وهو أساساً من بلدة عيحا في قضاء راشيا، ويقول كمال أبو لطيف (صُعقت لما سمعت من كمال كنج موضوع الدولة الدرزية ورفضت مقابلة يعقوب رفضاً مطلقاً وقررت الرجوع الى بيروت في اليوم التالي، الا أن كمال كنج ألح عليّ للبقاء ثلاثة أيام فقط لنجمع ما نستطيع من معلومات عن خطط الاسرائيليين لاقامة هذه الدويلات العنصرية والطائفية، لأنهم اذا لم ينجحوا معنا فسيبحثون عن غيرنا، فلماذا لا نماشيهم لفترة من الزمن ونأخذ ما نستطيع من معلومات ونضعها بين يدي مسؤولينا في لبنان وسورية. أليس هكذا أفضل وطنياً وعروبياً ودرزياً). وبالفعل اقتنع أبو لطيف بعرض كمال كنج، واجتمع بيعقوب في اليوم الثالث لوصوله الى روما، ووجد بيعقوب العقيد، يهودياً شرقياً يتكلم العربية بطلاقة، وهو قصير القامة، كثير الكلام، وهذه كانت نقطة جيدة لمصلحة أبو لطيف وكان يشرب الكحول بشراهة، وهذه أيضاً كانت نقطة ايجابية ثانية لهدف جلب المعلومات».
ويشير الخطيب نقلاً عن أبو لطيف الى أنه «في اللقاء بدأ يعقوب بشرح موضوع الدولة الدرزية، وأهمية هذا الحدث على صعيد المنطقة وعلى صعيد الطائفة الدرزية، والتي بنظره تعاني من التهميش والاهمال ما يدعو الى الثورة. وقد سأله كمال أبو لطيف و(ما هي الخطة للوصول الى هذا الهدف العظيم وكيف ستكون الآلية متى وأين وكيف؟)، فأجاب يعقوب بأن (المهم قبل كل شيء القناعة الفكرية والوجدانية لدى القيادات الدرزية الأساسية، ونحن نعرفهم جميعاً، نريد منكم أنتم – أي أبو لطيف وكنج – أن تطرحا الفكرة مع هؤلاء لتتأمن قاعدة لمناخ ايجابي تجاه الدولة العتيدة، والباقي علينا، علماً أنني مخول أن أبدأ العمل معكما بثلاثين مليون دولار فوراً لتتمكنوا من الحركة والفعل). ثم سأل أبو لطيف العقيد يعقوب عن الشق العسكري من هذا المشروع، فتضايق يعقوب من السؤال.
في اليوم الرابع من لقاءات روما حاول يعقوب استدراج أبو لطيف للذهاب معه الى تل أبيب، بذريعة أن المسؤولين الاسرائيليين الكبار الذين كانوا قد وعدوه بتأمين لقاء له معهم في روما، قد تعذر عليهم مغادرة اسرائيل، وعرض عليه تأمين جوازات سفر اسرائيلية له ولصديقه كنج لتأمين خروجهما من ايطاليا الى تل أبيب. وبعد عودتهما الى روما مجدداً يمزقان الجوازات، وكأن شيئاً لم يكن. وقال: (ما لكم وللشق العسكري، ان هذا الجزء من الخطة متروك للعسكريين ولا حاجة لكم به، ثقوا بنا ولا شك سنصل معاً الى غايتنا). ويستطرد أبو لطيف بالحديث فيقول انه رفض العرض الاسرائيلي الذي أبلغه اياه كمال كنج، رفضاً قاطعاً ورفض حتى مناقشته تحت أي طابع كان مع العقيد يعقوب، الذي لم ييأس من محاولة اقناع أبو لطيف وكنج بالذهاب الى اسرائيل، واستمر بالمحاولة بين الحين والآخر. وفي هذه الأثناء كان يعقوب قد طرح موضوع الأمير حسن الأطرش وضرورة دعوته من قبل كمال كنج الى روما، وبصعوبة بالغة تمكن أبو لطيف من زيارة الأمير حسن الأطرش في منزله في عمان، فهو هناك في ضيافة الملك حسين بن طلال الذي رفض اعطاءه لجوءاً سياسياً في الأردن تقديراً منه للنظام السوري الذي كان يلاحق الأمير حسن لأسباب سياسية».
ويلفت الخطيب الى أن «أبو لطيف طرح مع الأمير حسن دعوة كمال كنج له الى روما، لأسباب تتعلق بوحدة الطائفة وقضايا أخرى متفرعة عنها، ولم يأتِ على ذكر الدولة الدرزية أو لقاء مسؤولين اسرائيليين في روما، لا من قريب ولا من بعيد، والدعوة كانت سريعة لأن يعقوب ينتظرهما في روما، وهكذا يكون الضابط الاسرائيلي يعقوب قد أمن المحور الثالث في قاعدة العمل للدولة الدرزية، على قاعدة أن يكون كمال أبو لطيف المنسق اللبناني، وحسن الأطرش المنسق الأردني – السوري، وكمال كنج المنسق عن دورز الجولان المحتل، ومن ثم يبدأ العمل التصاعدي على المحاور الثلاثة، حتى الوصول الى الغاية المرتجاة. اعتذر الأمير حسن عن تلبية الدعوة بالسرعة المطلوبة، خصوصاً أنه مقيم في الأردن ضيفاً على الملك حسين ولا يسعه المغادرة، الا باذن من الملك مع ضرورة شرح أسباب السفر لياقة مع الملك. وبنتيجة الحاح كمال أبو لطيف عليه قبل بارسال حفيده الأمير حمد زيد الأطرش نيابة عنه، واتفق أبو لطيف والحفيد الأمير حمد الأطرش على اللقاء في بيروت يوم الخميس في 16 نوفمبر 1967 وفي بيروت رحب أبو لطيف بضيفه وأمن له حجزاً وبطاقة طائرة بيروت – روما – روما – بيروت، وسافر الحفيد يوم الثلاثاء في 21 نوفمبر 1967 الى روما، وبقي أبو لطيف في بيروت لاتمام خطته التي اتفقت أنا واياه على اتباعها لرفع كل مسؤولية قد تترتب عليه جراء اتصاله بالعدو، وتالياً لوضع المرجعيات الدرزية والوطنية في لبنان سورية والأردن والرئيس عبد الناصر بصورة ما تعده اسرائيل لاقامة الكيانات والدويلات الطائفية والعنصرية والمذهبية في منطقة الشرق الأوسط، وكانت تقضي هذه الخطة باعلام الأستاذ كمال جنبلاط والعميد يوسف شميط واستئذانهما بالعودة السريعة الى روما، وقد التقى أبو لطيف مع الأستاذ كمال جنبلاط بحضور شوكت شقير ووضعه بصورة العرض الاسرائيلي، وقد أُعجب جنبلاط بنوعية المعلومات وخطورتها ووعده (أي وعد أبو لطيف) بتأمين موعد له مع العميد شميط رئيس الأركان، وقد نصحته من جهتي برؤية عبد الكريم الجندي، رئيس الأمن القومي في سورية، لوضعه في الأجواء، لأنني كنت واثقاً أنه سيعلم بتحرك كمال كنج والأمير حسن أو أي أحد من قبله، فالمعلومات عن الجولان المحتل كانت أولوية مطلقة لدى المخابرات السورية، أما الأردن فكنا أيضاً مطمئنين الى أن الأمير حسن سيطلع الملك حسين على هذه القضية المهمة».
ويقول الخطيب: «أجرى أبو لطيف هذه الاتصالات كلها، واتفقنا على المتابعة الدقيقة للموضوع مع رفاقه الاثنين، الأمير حمد زيد الأطرش، حفيد الأمير حسن والسيد كمال كنج القادم من مجدل شمس في الجولان المحتل، ثم سافر كمال أبو لطيف عائداً الى روما. وفي روما، يقول أبو لطيف بعد عودته منها، وقد زارني في مكتبي في كورنيش المزرعة في بيروت، انه التقى يعقوب وبحضور كنج والأمير حمد أكثر من ثلاث مرات، وقد كانت هذه اللقاءات مثمرة على صعيد المعلومات، فقد أسهب يعقوب بالاشادة ببني معروف أصحاب الوفاء والشهامة والشجاعة. وأخذ يحضهم على الانخراط بمشروع كيانه ناقلاً تعهد الأميركيين واسرائيل بقيام الدولة الدرزية سياسياً وأمنياً واقتصادياً وأن مصلحة الأقليات كلها في منطقة الشرق الأوسط باقامة الكيانات الطائفية على غرار دولة اسرائيل، وأن الدولة المارونية على الطريق بعد نجاح الدولة الدرزية، وبعد ذلك انتقل الى رسم حدود الدولة الدرزية من الشوف فالبقاع الغربي فالجولان ثم «وادي العجم» أي منطقة قطنا، ثم جبل العرب، أما كيفية الوصول الى هذه الدولة، فهي مفصلة بخطة مدروسة على أعلى المستويات العسكرية – السياسية، وقال لهم هنا العقيد يعقوب (ان ما استطيع قوله لكم في هذا الصدد هو أن الخطة ستكون تدريجية بالزمان والمكان، وسيبدأ بتشجيع الفلسطينيين المتواجدين حالياً في لبنان وسورية والأردن وحتى غزة بالانتقال الى مناطق راشيا وحاصبيا والبقاع الغربي، والتموضع سكنياً وعسكرياً في تلك المناطق، وطبعاً مع التحرش المستمر باسرائيل حتى نصل الى درجة عدم الاحتمال محلياً ومع رأي عام دولي ايجابي بالنسبة الى أي تحرك اسرائيلي باتجاه هذه المناطق، وسيجري هذا التحرك بالتوازي زمنياً مع التحرش بالسوريين اذا لم يتحركوا تلقائياً لمساندة الفلسطينيين في جنوبي – غربي لبنان، وتدخل قواتنا الى منطقة قطنا وتعزل الجولان بأكمله حتى السويداء في جبل العرب). والخطة قسمت الاجتياح العسكري الى ثلاث مراحل، الأولى لاجتياح قضاءي حاصبيا وراشيا والبقاع الغربي، والثاني لقضاء قطنا وامتدادها نحو الجنوب حتى عزل كامل الجولان والحاقه بالقسم اللبناني أو بالعكس، وفقاً لتطور العمليات الحربية وحجم التدخل أو ردود الفعل الشعبية التي يجب أن تكون قد هيئت من قبل الزعامات والمرجعيات المتفاهمة مع اسرائيل، والثالثة اجتياح باقي المنطقة الجنوبية السورية حتى السويداء في جبل العرب، ولا تحدد الخطة المدة الزمنية اللازمة لكل مرحلة، لأن ردود الفعل العربية قد لا تبقى خجولة كما هي الآن، خصوصاً كما هي بعد حرب يوليو الماضي».
ويضيف الخطيب: «في الحقيقة أذهلني السيد كمال أبو لطيف بهذه المعلومات حتى كدت أتلمس نفسي هل أنا في اليقظة أو في الحلم، لأن طبيعة هذه المعلومات وحجم موضوعها وارتداداته على صعيد المنطقة والعالم العربي بأسره، وخطورتها على استقرار المنطقة بكاملها، لا يمكن أن يُترك أمر التصرف بمثل هذه المعلومات لعقيد في المخابرات غير مجهز تجهيزاً كاملاً بالمعلومات الأساسية ولا بخطة عمل واضحة، لكي يتمكن المولج بهذه المعلومات من تحليل وتفسير وتأويل مدلولاها وخلفياتها ومراميها، وبالتالي لمعرفة خطط العدو وأهدافه، وعلى هذا الأساس طلبت من أبو لطيف كتابة تقرير مفصل عن كامل رحلتيه الى روما، ووضع المعلومات كلها التي استطاع جمعها وتنسيقها، بين يدي الأستاذ كمال جنبلاط والعميد يوسف شميط، والعقيد عبد الكريم الجندي في سورية وأن يترك نسخة اضافية بين يدي الأستاذ كمال جنبلاط ليرسلها الى الرئيس عبد الناصر الذي أبدى اهتماماً ملحوظاً في هذه المعلومات منذ الرحلة الأولى لأبو لطيف الى روما، هكذا قال جنبلاط».
ويتابع: «أما كيف انتهت هذه التجربة وعطلت المؤامرة، فقد حاول يعقوب استدراج الأمير حمد الأطرش وكمال أبو لطيف الى اسرائيل حيث يقابلهما مسؤولون كبار في (الشين بيت) المخابرات الاسرائيلية، لكنهما رفضا رفضاً قاطعاً وعادا من روما الى عمان وبيروت في اليوم نفسه بعد أن أعطى يعقوب لكمال أبو لطيف عنواناً في سويسرا لمكاتبته الى هناك وحدد معه طريقة التراسل وطلب مجموعة معلومات بقصد متابعة القضية الأساسية التي هي الدولة الدرزية، التي لم يجرِ عليها أي توافق للبدء بالعمل، وهكذا عاد أبو لطيف الى بيروت، ونقل التفاصيل كلها الى المسؤولين العرب في سورية والأردن ولبنان، مبرهناً عن حس وطني عريق والتزام قومي عميق، وعن أنفة وتضحية وكبر نفس تقدر رفض ما عرض عليه في روما من مال، وكذلك رفض المبلغ الكبير الذي وضعه العقيد عبد الكريم الجندي تحت تصرفه كمكافأة وتقدير على جهوده وتضحياته. أما على صعيدنا نحن، فبعد أن رفعت تقرير أبو لطيف الكامل الى رئيس الشعبة الثانية المقدم غابي لحود، رغب هو أيضاً مكافأة أبو لطيف وشكره على تضحياته واخلاصه، لكن أبو لطيف رفض باصرار أخذ المبلغ الذي خصصناه له معتبراً كل ما قام به واجباً وطنياً لا يمكن أن يتقاضى عليه أجراً. وبناء على ذلك اقترحت على المقدم لحود اهداءه مسدساً من النوع الجيد مع ترخيص بحمله، فأخذه شاكراً، ولم نتركه بعد ذلك عرضة لأي محاولة سيئة من المخابرات الاسرائيلية التي اكتشفت بعد بضعة أشهر أن المخطط كله اصبح بين يدي الدول العربية فاستدعت المخابرات الاسرائيلية كمال كنج وحققت معه مرتين وطلبت كمال أبو لطيف فلم توفق مما اضطرنا لتأمين حماية سرية له من دون علمه بادئ الأمر، ثم أعلمناه بالواقع فأخذ احتياطاته كاملة».
بالوقع على الرغم من الإطالة بالسرد لتلك القصة المخابراتية، إلا أن ذلك يظهر حقيقة الرفض الذي دأب عليه الدروز لتلك الدولة الموهومة، ودليل على حرص القيادات الدرزية ومثقفي الطائفة في إحباط المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة لشرخ الدروز عن واقعهم العربي – الإسلامي.