سلايدات

وَهْم اللّادولة… حتميَّة الدّولة!

كتب زياد صائغ في المدن :

الإصرارُ على الإنكار إغراقٌ في التفكّك. الإغراق في التفكّك غَوْصٌ في فوْضى الغضب. الغَوْص في فوضى الغضب تعميقٌ للهّوة بين العَوْدة إلى الضمير من ناحية، والتصلّب في اغتياله من ناحيةٍ أخرى. في هذه المُعَادلات التي ذكرنا، وبِحَسب تجارب تاريخيَّة، إنكبَّ على تفنيدها الباحث في علم التاريخ الألماني فولفغانغ سكيفلبوخ، خصوصًا في مؤلّفَهِ “ثقافة الهزيمة” (2001)، بِحَسْب هذه التّجارب التي عاشتها دُوَلٌ أو جماعات تنقلّت فيها من نَشْوَة الانتِصار، إلى إنكار الهزيمة، فمرارة التشتّت، خُلوصًا إلى الغَضَب القاتِل، ثمَّة ما يستدعي البَحْث المعمَّق في حقيقة الانعِطافة الأيديولوجيَّة المُعَسْكِرة للدّين القابِعة في مُربَّع الاستثمار في اللَّادولة، وحتميّة الدّولة حيثُ يَسودُ الدّستور والقانون في حِمى الشرعيَّة، والمواطنة الحاضنة للتنوّع.

ما سَبَق محاولةُ فَهْم عميقة للاستِعادة الطّبيعيَّة لسرديَّة التّخوين والتّحريض والتّهويل التي احترفها بعضٌ من دُعاة اللّادولة، بالاستِناد إلى المعطى السَّيكولوجيّ الذي يَسوق وجدانَهُم الجماعيّ من ناحيَة، ناهيك بالحاجة الملِحَّة التي تقود مساراتِ مُفاوضاتِهم العُلْيا مع الأعداء التّاريخيّين،أو بالأحْرى الحلفاء الموضوعيّين من ناحيةٍ أخرى، الحاجة الملِّحة إلى استِعمال كلّ الأوراق المُتاحة لتحسين شروطِ تفاوض هؤلاء، بعد سِلْسلة من الانكِسارات الكارثيّة، وسقوط حلف الأقليّات والمسألة الشرقيّة معاً.

في هذا السّياق، لا بدّ من التنبّه إلى أنّ سرديّة التّخوين والتّحريض والتّهويل، يقابلُها ثباتٌ في سرديّة موجِب الانخراط الأعْمق في بناء دولةِ المواطنة، حيث احتِكار القوّة وَقْفٌ على المؤسّساتِ الشّرعيّة الدّستوريّة بقواها العسكريّة والأمنيّة، وبِهَيْبتها القضائيَّة، وفي هذه الأخيرة تبرُز حتميّة الدّولة. الأمن بحصريّته مؤسِّس لكنَّه غيرُ كافٍ. القضاء ضمانة الأمْن. من هُنا يتبدّى جليًّا، أنّ الاكتِفاء بالتّعويل على إنهاءٍ لكلّ قوّةٍ غير دولتيَّة، من دون انتهاجِ خيار مُساءلتها على الموبِقات التي ارتكبتها بالتّحالف مع مُعَسْكر المنتفعين والفاسدين، خيار مساءَلتِها فمحاسبتها، كلّ اكتفاءٍ بتعويلٍ مُماثِل يعني دقًّا لمسامير إضافيَّة في نعش الذّاكرة اللّبنانيّة الجماعيّة، أي تعويم الانقِضاض المتجدّد على العدالة. العدالة ضمانة حقيقة الدّولة.

حتّى السّاعة، وبالاستناد إلى التصدّع الذي يجتاح مُعسْكر القائلين باستِدامة خيارهم في مربّع الاستِثمار في اللّادولة، يبرُز تردّد في الخطوات الدّولتيّة العملانيّة تُجاه ترسيخ أكثر شُموليّة لمقتضيات قِيام الدّولة بوظيفَتيْها السّياديّة والإصلاحيّة، ربْطًا باستِخلاص العِبر من الخُصوصيَّة اللّبنانيّة حيث التّهديد بِحَرْبٍ أهليّة تَقليدٌ مقيت وخبيث في المفاصِل التّاريخيّة من ناحية، والخَوْف من تجدّدها قائمٌ في لاوعي بعضِ المؤتمنين على راديكاليّة الإنْقاذ من ناحيةٍ أخرى. التّهديد دليلُ ضُعْف. الخوْفُ دليلُ قصورٍ عن قراءة التّاريخ.

قد نَشْهد في المراحل المقبِلة استنفارًا لعُنْفٍ لفظيّ يتبنّاه فريق اللّادولة كما بعض توتّرات ميدانيّة استعراضيّة للتخويف. وفي هذا الاستنفار تعبيرٌ عن الانتِقال من المرارة إلى الغَضَب، الغَضب غير المبرّر، إذ إنّ مقوّمات الاستيعاب التي استُخدِمت في الأشهر المُنصرمة أثبتت حُسْن نوايا فريق الدّولة في ضرورة التّلاقي على كلمة سواء، قوامُها الدّستور مع القرارات الأمميّة ذات الصّلة. في هذا الاستِنْفار انقلابٌ على حقيقة فَهْم طبيعة التحوّلات التي يُعايشها لبنان، بمعنى تَبلوُر فُرْصةٍ نادرة لقيام دَولةٍ حقيقيّة فيه، مرفودةٍ بزَخْمٍ عربيّ دوليّ استثنائيّ.

في مقابل ذلك، لا بُدّ من أن يبتعد القائلون بحتميّة الدّولة عن أيّ فِعْل مقايضةٍ على قاعِدة إلحاحِ التّموضع في أنْصاف الحلول. الرّماديات والزئبقيّات والالتباسات مَقْتَلة. إنّه زمن الفِعْل السّياسيّ اللّبنانيّ بامتياز. فِعْل السّياسات العامَّة الحكيمة والجريئة، والأمن القومي والوطني الواضحَي المعالم. ثقافة هزيمة الدّولة، وإن انتَصَرت كُرْمى عين الاحتِواء، يعني دخولنا محظور الرّمال المتحرّكة مرّة جديدة. مرّة ختاميّة تنهي إمكانِ أيّ قيامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى