سلايدات

الاختبار الكبير: ماذا يبقى من “الحكم” إذا سقطت “سرّيّته”؟

 كتب عبادة اللدن في اساس ميديا : 

ظلّ لبنان واحداً من آخر حصون نظام السرّية المصرفية بعد انقراضه عالمياً على مدى العقدين الماضيين، مع تحوّل هذا النظام من رمز لحرّية التملّك وخصوصيّة الثروة إلى مرادف لسرّيّة الفساد والممارسات غير المشروعة.

 

كانت سويسرا أقوى القلاع التي تخلّت عن الكثير من ثوابت السرّية المصرفية، بعدما تعرّضت بنوكها لضربات أميركية موجعة، أكبرها حين اضطرّ بنك “يو بي إس” إلى دفع غرامة قياسية للقضاء الأميركي بقيمة 780 مليون دولار عام 2009، بعدما اعترف بأنّه “ساعد دافعي ضرائب أميركيين على إخفاء حسابات مصرفية”، والتزم كشف هويّات آلاف الزبائن الذين ساعدهم على التهرّب.

كانت تلك رصاصة واشنطن الأولى لقتل السرّية المصرفية في النظام الماليّ العالمي، وأتبعتها بالرصاصة الثانية عام 2010، مع صدور قانون “فاتكا” الذي أجبر البنوك في العالم كلّه على إبلاغ مصلحة الضرائب الأميركية (IRS) عن الحسابات الأميركية. ثمّ أتت الرصاصة الثالثة القاتلة من منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) عندما أقرّت عام 2014 ما يسمّى بـ”مبادرة التبادل التلقائي للمعلومات الماليّة” (CRS)، التي انضمّت إليها أكثر من مئة دولة، وباتت بمنزلة نظام عالمي لمكافحة التهرّب الضريبي. ومنذ ذلك الحين مالت الكفّة إلى ملاحقة الأموال القذرة على حساب حماية الخصوصيّة، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بثروات الأشخاص المعرّضين سياسيّاً (PEPs).

علنية الفساد وسرية الثروات..

ساهمت عوامل كثيرة في سقوط الحمايات على المعلومات المصرفية، بدءاً من هجوم 11 أيلول وصعود الإرهاب العالمي، وعصابات الجريمة المنظّمة، وتصاعد الاهتمام العالمي بمكافحة التهرّب الضريبي، والإفصاح، والشفافية، والحوكمة. لذلك التمسّك بالسرّية المصرفية في لبنان ليس إلّا تمسّكاً بنظام بائد لم يعد يرمز إلّا إلى التستّر على الفساد والجرائم الماليّة والتهرّب الضريبي. وهذا التمسّك لم يعد ممكناً، علاوة على الجدل في جدواه والمصلحة المبتغاة منه.

النهاية الفعليّة للسرّية المصرفية لن تحدث بقوّة التوازنات الداخلية

المفارقة أنّ لبنان عضو في النظامَيْن المشار إليهما أعلاه، ولديه التشريعات اللازمة للتوافق مع معايير مجموعة العمل المالي (FATF)، لكنّ موازين القوى الداخلية أبقت على السرّية المصرفية جزءاً أصيلاً في النظام السياسي – الماليّ الحاكم. ولذلك السياق اللبناني يعطي لرفع السرّية المصرفية بعداً أكبر. إذ يمكن اعتبار إقرار مجلس النوّاب لتعديل أحكام السرّية في قانونَي “النقد والتسليف” و”سرّية المصارف” نهاية رمزيّة لحقبة سياسية-اقتصادية سِمتها علنيّة الفساد وسرّيّة الثروات.

النّظام السّياسيّ والسّرّيّة المصرفيّة

لكنّ سؤالين أساسيَّين يُطرحان في ضوء إقرار هذا التشريع:

1- هل انتهى نظام السرّية المصرفية اللبناني فعلاً؟

2- هل يمكن أن ينتهي نظام السرّية المصرفية من دون أن ينتهي النظام السياسي الفاسد المرتبط بها؟

من حيث النصّ، يرفع التشريع الجديد السرّية المصرفية بشكل كامل وغير مقيّد تجاه مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمدقّقين والمقوِّمين المعيّنين من قبلهما، مع أثر رجعي لعشر سنوات. وهذا يُنهي نظريّاً السرّية المصرفية، ويتيح الكشف عن كلّ الممارسات التي جرت على مدار السنوات العشر الماضية من السياسيّين والمصرفيّين والنافذين والمرتبطين بهم، لا سيما تلك المرتبطة بالأزمة التي عصفت بالقطاع المصرفي وأدّت إلى ضياع الودائع، وهذا بلا شكّ كفيل بإحداث هزّة كبرى في النظام السياسي – المالي.

السرّية المصرفية

على وجه التحديد، سيكون رفع السرّية كفيلاً بالإجابة على شيء من هذه الأسئلة، على سبيل المثال لا الحصر:

– من قام بتحويل الأموال إلى الخارج، بمعاملة تمييزية، فيما كانت البنوك مغلقة بوجه المودعين؟

– من استفاد من تسديد القروض الكبيرة (جداً) بالليرة اللبنانية أو عبر تجارة الشيكات؟

– من استفاد من أموال الدعم وفضائح الضريبة المدفوعة على سعر الصرف القديم بعد انهيار الليرة؟

– أين ذهبت الأصول العقارية وغير العقارية التي كانت مرهونة للمصارف؟

– ما التعاملات التي جرت بين البنوك والأطراف ذات الصلة من ملّاك ومديرين؟

 التمسّك بالسرّية المصرفية في لبنان ليس إلّا تمسّكاً بنظام بائد لم يعد يرمز إلّا إلى التستّر على الفساد والجرائم الماليّة والتهرّب الضريبي

لكنّ النص وحده لا ينهي نظاماً ولا يقيم آخر. الإشكال هنا أنّ القوى السياسية التي منحت 87 صوتاً لقانون رفع السرّية المصرفية، لم تفعل ذلك إلّا بضغط خارجي شديد، يشبه ما جرى عند انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة والتصويت لمنح الثقة. ويبقى تبيُّن هل كانت هذه القوى ستستخدم ما بقي لديها من أسلحة لتعطيل تطبيقه.

أربعة عناصر فاصلة

المحكّ هنا يكمن في أربعة عناصر:

1- ممارسة الحاكم الجديد لمصرف لبنان كريم سعيد والمهمّة التي يحدّدها لنفسه، وهو أعلنها بوضوح في بيان تسلّم الحاكمية.

2- هويّة لجنة الرقابة المصرفية، مهنيّاً وسياسياً، في ضوء التعيينات المرتقبة لأعضائها ورئيسها في الأسابيع المقبلة. ومن الواضح أنّ هذه المعركة ستكون شديدة، على ما يظهر من شراسة الهجوم على الرئيسة الحالية مايا الدباغ من أطراف عدّة.

3- صلاحيّة “تحديد دقائق تطبيق” قانون رفع السرّية المصرفية، التي ينيطها القانون بمجلس الوزراء عبر مرسوم بناء على اقتراح وزير المالية. وبالتالي، ما زال وزير المالية يُمسك بمفتاح في المسألة، وكذلك مجلس الوزراء مجتمعاً.

4- وأخيراً، إقرار قانون الفجوة المالية وتشكيل الهيئة المصرفية العليا التي ينصّ عليها قانون إعادة هيكلة المصارف، باعتبارها المرجع في إعادة الهيكلة.

تشير التجارب السابقة إلى أنّ القوى السياسية ترضخ للضغوط، لكنّها لا تعدم الحيلة للعودة إلى المقاومة بطريقة أخرى، ولذلك النهاية الفعليّة للسرّية المصرفية لن تحدث بقوّة التوازنات الداخلية، بل فقط إذا كانت قوى الداخل قد خارت بالفعل إلى الحدّ الذي يسمح للخارج أن يفرض على الدولة أجندة الحكم والحوكمة على النحو الذي فُرضِ به انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى