
كتبت شهد نكد في المدن :
“نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصوّرْ حجمَ ما مات فينا حتى تعوَّدْنا على كلّ ما حولنا”.
في الوقت الّذي تنطوي فيه فصول الانتخابات البلدية والاختيارية واحدًا تلو الآخر، وفي حين يُفترض أن تتجسّد إرادة الناس في اختيار ممثّليهم المحلّيين لإدارة شؤونهم الإنمائية والخدماتية، كشفَ الواقع في العديد من المناطق اللبنانية، لا سيّما في قضاء زغرتا- الزاوية صورة قاتمة تُثير تساؤلات جوهرية: هل العائق الحقيقي أمام عمل المجالس البلدية المنتخبة هو ضعف الصلاحيّات، أم ضيق الإمكانات المادّية، أم تدنّي المستوى الأخلاقي والقيَمي؟
اغتراب انتخابي من سيدني إلى زغرتا
في إحدى قرى قضاء زغرتا، التي لا يتجاوز عدد ناخبيها 350 شخصًا، كتب أحد أبنائها عبر فيسبوك: “وأنت تمشي في الضيعة، تخال نفسك في سيدني”. هذا التشبيه لم يكن مجازيًا بالكامل. إذ تشير المعلومات إلى أنّ ما يقارب 50 مغتربًا قَدِموا من أستراليا للمشاركة في الانتخابات، بعضهم لم يزر لبنان من قبل. وفي إحدى البلدات الكبرى، شارك نحو 400 شخص في التصويت، أتوا من خلف البحار ليغادروا في اليوم التالي مباشرة، في مشهد أقرب إلى التعبئة المنظّمة منه إلى الممارسة الديمقراطية الطوعية.
وفق مصادر محلّية، تجاوزت المبالغ المدفوعة لشراء الأصوات في بعض القرى مئات آلاف الدولارات. إنّها ظاهرة لم تَسلم منها سوى قلّة قليلة من البلدات، وسط تنافس محموم بين قطبَي زغرتا السياسيّيْن، تيّار المردة وحركة الاستقلال.
وقبل أن يطالبني أحد بتقديم تسجيلات أو مستندات توثّق عمليات شراء الأصوات، أقولها بوضوح: “غياب الدليل العينيّ ليس دليلًا على غياب الفعل”. هذا ليس رأيًا شخصيًا، بل هو مبدأ قانوني معروف. الرشوة الانتخابية في لبنان لا تُمارس في الخفاء، بل غالبًا في العلن من دون خوف أو مساءلة. والأدلّة المباشرة قد لا تكون متاحة دائمًا، لكن الوقائع تفضح نفسها من خلال التكرار، والسياق، والتطابق، والنتائج. إذ لسنا بحاجة الى كاميرا خفيّة لتوثيق ما أصبح يُتداول علنًا وبلا خجل في المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخصّ من باب النكتة التي هي بمثابة “وثيقة ثقافية”.
مساعدات اجتماعية أم رشاوى موسمية؟
لتبرير هذه الأموال، يُقدَّم المال الانتخابي غالبًا بصفة “مساعدة اجتماعية”. غير أنّ القانون اللبناني واضح في هذا الشأن، فالمادة 62 من قانون 44/2017 تنصّ على أنّها “لا تُعتبر محظورة التقديمات والمساعدات… إذا درجوا (المرشحون أو الأحزاب أو المؤسّسات) على تقديمها بذات الحجم والكمّية بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات قبل بدء الحملة الانتخابية…”. لكن الواقع مختلف؛ فالآلاف ومئاتها تُدفع خلال 48 ساعة الأخيرة بصمت مدوٍّ، بالتزامن مع الدخول في مرحلة الصمت الانتخابي.
إنّ خطورة الرشوة الانتخابية لا تكمن فقط في إفساد العملية الديمقراطية، فالخوف على الديمقراطية تحوّل أصلًا الى ترفٍ في لبنان. والمشكلة هي أعمق وأخطر من ذلك بكثير؛ تكمن في غفلتنا الجماعية، في “التعوّد” الذي تكلّم عنه الكاتب ممدوح عدوان، هذا “التعوّد” الذي يُفقد القبح صدمته. حيث لم تعد المشكلة في ممارسة الرشوة، بل في مصالحتنا معها، وفي قبولنا بها كأمر عادي. وهذا القبول ليس سوى شكل من أشكال البغاء، البغاء الفكري حيث تُباع الاخلاق وتُهان الكرامة الإنسانية مقابل حفنة من الدولارات.
وينسحب هذا “التعوّد” تلقائيًا الى مفهوم الإنماء الذي يصبح مجرّد صفقة مالية. فيمتدّ الى الأرصفة التي نتصالح مع فكرة احتلالها، وإلى المساحات العامّة التي نتأقلم مع تحوّلها الى مواقف للسيّارات وأكشاك لبيع القهوة. نتعوّد على بيع أشجار الغابات حطبًا، وعلى التصنيفات العشوائية القاتلة. نتعوّد على أنّ “العام” ليس ملكًا ومنفعة للجميع، بل طريدة نحاول جميعًا افتراسها، كلٌّ بحسب موقعه وقدرته ونفوذه. ننسى الأبعاد البيئية والثقافية والاجتماعية والإنسانية للإنماء، مختزلين إيّاه بشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المنفعة المادّية”.
كرامة للبيع
في رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو، اضطرّت “فانتين” إلى بيع جسدها بالتقسيط لتُعيل ابنتها. باعت أوّلًا شعرها، ثمّ أسنانها، وعندما لم يتبقَّ لها شيء، باعت ما تبقّى من جسدها. حاولت جاهدةً، حتّى اللحظة الأخيرة، صونَ كرامتها، لكن قساوة المجتمع دفعتها إلى التخلّي عن كلّ شيء.
أمّا نحن، فما هي تلك الحالة الطارئة التي تدفعنا إلى بيع كرامتنا الإنسانية؟ أهي الحاجة؟ أبدًا، إنّه الشّرَه. “فانتين” باعت جسدها لتُبقي ابنتها على قيد الحياةـ، لكن نحن نبيع ما لا يجب أن يُباع -الكرامة، الضمير، الصوت- لا من أجل البقاء، بل من أجل الشهوات في عصر صار فيه الاستهلاك هو العقيدة المهيمنة. “فانتين” كانت ضحية مجتمع ظالم، أمّا نحن، فغالبًا ما نكون شركاء في صناعة الظلم، ثمّ نشكو من نتائجه.
فالمفارقة أنّنا كمجتمع، لا نشعر بالعار حيال هذه الممارسات، طالما الشرف الخارجيّ محفوظ. نحن نعلّق أهمّية على صورة العائلة والسمعة، أكثر من الكرامة الفرديّة التي تُبنى من الداخل. وهكذا، يغدو بيع الصوت ليس عيبًا، بل “حِنكة”، ويتمّ تبريره بالحاجة وبالمصلحة.
غير أنّ بيع الصوت ليس خيارًا بريئًا. إنه فعل يُشبه -في عمقه- بيع الجسد. إنه بغاء فكري، وإنساني، ومجتمعي، لا يقلّ خطورة عن أيّ شكل آخر من أشكال البيع المُهين للذات، وقد يكون الأخطر.
إنّ ما حدث في قضاء زغرتا ليس استثناءً، بل جزء من مشهد لبناني أوسع، حيث أصبح الاستحقاق الانتخابي مناسبة للبيع والشراء، لا للمساءلة والمحاسبة. والمشكلة لا تقتصر على مَن يدفع ومَن يقبض، بل تشمل أيضًا مَن يصمت، ومَن يبرّر، ومَن يختبئ خلف حجج واهية، وبالأخصّ مَن لا يلاحظ.
لم نصل إلى هذا المنحدر الأخلاقي مصادفة، فالمنظومة السياسية عملت عمدًا على تغذية روح الفساد عند الناس. وما يحصل اليوم ليس سوى نتيجة طبيعية لعقود من نهج استبدال الدولة بالعشيرة، والمؤسّسة بالزعيم، والمواطَنة بالزبائنية.
إنّ الرشوة الانتخابية تُفسد الضمير وتُقوّض المجتمع، والخرق قد لا يُوثَّق دائمًا في القانون، لكن ضمائرنا تُوثّقه، وتحتفظ به ذاكرتنا الجماعية.
وربّما لا نستطيع وقف هذا الانحدار إلّا حين نبدأ باستعادة الصّدمة أمام هذه البشاعة.