
تاريخياً، شكّلت المناصفة في مجلس بلدية بيروت تعبيراً دقيقاً عن صيغة العيش المشترك بين مكوّنات العاصمة، رغم التفاوت الديموغرافي. وكان الحفاظ على هذه المناصفة في العديد من الدورات يتم عبر توافقات سياسية دقيقة، تشمل تمثيلاً متوازناً بين المسلمين والمسيحيين (12 عضواً لكل فريق)، وهو تمثيل يعكس خصوصية بيروت، ويمنع انزلاقها نحو مشهد طائفي محتقن.
غير أن الانتخابات الأخيرة أفضت إلى اختلال في هذا التوازن، حيث خسر الفريق المسيحي أحد مقاعده بفعل عمليات “التشطيب” المتبادلة، التي طالت مرشحين مسيحيين داخل اللائحة الواحدة، أو بالأحرى مرشحاً واحداً. المسؤولية المباشرة، بحسب مصادر مطلعة، يتحملها حزب القوات اللبنانية، الذي أصرّ على دعم مرشحه راغب حداد لمنصب نائب الرئيس، وهو عضو مجلس بلدي سابق، ويُطرح عدد من الجهات تساؤلات حول أدائه، في مواجهة المرشح الأرثوذكسي إيلي أندريا المدعوم من مطران بيروت للروم الارثوذكس الياس عودة، وهو أيضا عضو سابق في المجلس البلدي وشعبيته ضعيفة في الوسط المسيحي.
أصر المطران عودة على إيلي أندريا، بينما سعت القوات إلى تعزيز فرص حداد عبر تشطيب اسم أندريا، ما أدى إلى تراجع عدد أصواته، وفوز المرشح السني محمود الجمل بالمقعد البلدي بفارق ناهز ثلاثة آلاف صوت، ما تسبب بالخرق العددي في تركيبة المجلس الجديد.
الجمل بما حمل
محمود الجمل، الذي يتمتع بشعبية كبيرة في الشارع البيروتي، هو شقيق العقيد نور الدين الجمل، الضابط في الجيش اللبناني الذي استُشهد خلال المواجهات مع المجموعات الإرهابية في عرسال، ما أضفى على ترشّحه بعداً وجدانياً ووطنيّاً عزّز حضوره الانتخابي. وهو مدعوم من النائب نبيل بدر ضمن لائحة “بيروت تواجه”، وبشكل غير رسمي من الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري.
أما لائحة “بيروت بتجمعنا”، فلم تكن نتيجة تقاطع سياسي بقدر ما كانت توليفة انتخابية فرضتها الوقائع، وارتكزت على تجيير أصوات محدّدة بدقة. فقد ساهم النائب فؤاد مخزومي بما يقارب خمسة عشر ألف صوت عبر ماكينة انتخابية ناشطة ومستقلة، بينما ضخت جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش) عدداً مماثلاً من الأصوات المنضبطة، مستفيدة من قدرتها التنظيمية في الشارع السني. كذلك، جيّر الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل نحو خمسة عشر ألفاً من الأصوات، بتنسيق مباشر مع الرئيس نبيه بري، الذي أراد عبر هذه المشاركة حماية مبدأ المناصفة وتفادي أي انفجار سياسي.
الحزب التقدمي الاشتراكي دخل على خط الدعم أيضاً، مساهماً بما يقارب ثلاثة آلاف صوت، في إطار سياسة متوازنة تبتعد عن الاستقطاب الحاد. أما في الجانب المسيحي، فقد توزعت كتلة انتخابية بلغ مجموعها نحو عشرة آلاف صوت على القوى الفاعلة: القوات اللبنانية التي طالبت بأربعة مقاعد ونالت ثلاثة، التيار الوطني الحر الذي طالب بمقعدين ونال اثنين، الكتائب اللبنانية التي حصلت على مقعدين، حزب الطاشناق الذي حصد وحزبا الهنشاك والرمغافار ثلاثة مقاعد، ومطرانية بيروت للروم الأرثوذكس التي رشحت مرشحين اثنين أحدهما إيلي أندريا، حصدت مقعدا وخسرت الآخر.
وبهذا، تمكّنت اللائحة من حصد 23 مقعدا من أصل 24، بفعل سقوط مرشح مسيحي وفوز مسلم مكانه، ما أدى إلى اختلال المناصفة التي كانت قائمة عرفاً.
بري حريص على المناصفة؟
في مقابل هذا التحالف العريض للأحزاب، خاض بدر والحريري الانتخابات بدعم لائحة “بيروت تواجه”. وقد نجحت اللائحة، في حصد ما يقارب اثنين وعشرين ألف صوت، ما عكس حضوراً احتجاجياً، خصوصاً في أوساط سُنّية لم تكن مرتاحة إلى التفاهمات العريضة التي ضمّت خصوماً سياسيين متنافرين.
التحالف غير التقليدي الذي جمع قوى متناقضة لم يكن نتيجة تفاهمات سياسية متينة، بل تعبيراً عن تقاطع ظرفي حول ضرورة تأمين التوازن في بيروت. فرئيس مجلس النواب نبيه بري، المعروف بحساسيته تجاه الملف البيروتي، أدار جانباً من هذا التحالف، ليس بدافع حرص وجداني على المناصفة، بل خوفاً من أن يؤدي كسرها إلى فتح الباب أمام دعوات الفيدرالية من قبل القوى المسيحية المتضررة.
في الواقع، كل طرف من أطراف اللائحة دخل العملية بمنطق الحسابات الخاصة. فـالقوات بإصرارها على ترشيح راغب حداد، والمطران عودة بتمسكه بترشيح إيلي أندريا، وبفعل عمليات التشطيب التي مارسها ناخبو القوات، طار أندريا، وفتحت القوات عن قصد أو عن غير قصد الطريق أمام محمود الجمل ليأخذ من المسيحيين المقعد الثاني عشر في مجلس بلدية بيروت.
رغم الخلفيات المتعارضة، فإن الأحزاب المشاركة اتفقت قبل الدخول إلى المجلس على تحييد الخلافات السياسية، واعتماد مقاربة إنمائية متوازنة، تمهّد لمرحلة أقل صداماً. كما أن هذه اللائحة، بتركيبتها، أطاحت باللوائح التغييرية التي فشلت في توحيد صفوفها، وخرجت بلا تمثيل، في مفارقة لافتة بعد حملة “شيطنة” طويلة للأحزاب التقليدية التي عادت لتتصدّر المشهد في العاصمة.
ما حصل في انتخابات بلدية بيروت ليس تفصيلاً، بل مؤشّراً على التبدلات السياسية والديموغرافية التي تطال العاصمة. فخرق المناصفة، حتى وإن حصل نتيجة أخطاء داخلية وتشطيب مقصود، يُنبّه إلى أن التوازنات الهشّة تحتاج إلى صيانة دقيقة. وإلا، فإن أي شرخ إضافي قد يفتح الباب أمام تصدّعات أكبر في قلب المدينة التي يُفترض أن تبقى مرآة الوطن.