سلايدات

لماذا استنفد العهد سياسته الخارجية؟

 كتب رضوان السيد في أساس ميديا : 

ما يزال مبكراً الحكم على العهد والحكومة بالنجاح أو الفشل. بيد أنّ المسارات التي حاول العهد الجديد اتّخاذها لا يغلب عليها الانسداد في مسألة سلاح “الحزب” فقط، بل وفي الأزمة الماليّة والمعيشية، وفي مسار الإدارة والتعيينات. في كلّ المسائل عودةٌ للسياسات السابقة وسياسات المحاصصة. وهناك فرق واحد فقط يتمثّل في سلاح “الحزب”. فقد كان التمييع يسود سابقاً. أمّا اليوم فإنّ الإسرائيليين والأميركيين ليسوا مستعدّين للتمهّل أو الإمهال.

 

وسط الكآبة المخيّمة على الأجواء… سرّتني رسالة رئيس الحكومة نوّاف سلام في ذكرى مقتل القضاة الأربعة في قصر العدل بصيدا، ومطلب رئيس الحكومة العدالة للشهداء، والأمل بقضاءٍ نزيهٍ ومستقلّ تقدّمت الحكومة بمشروع قانونه لمجلس النواب. إنّما عند كلّ ذكرى أو حديث تكون حسرات نتيجة تداعيات الخواطر. فنحن نعلم أنّ القضاء اللبناني نصفه شواغر أو بالإنابة، وعادت التجاذبات في تعيين هذا القاضي أو ذاك في هذا المنصب أو ذاك. وهناك جهات مختصّة المفروض أنّها هي التي تقترح ولا داعي لتدخّل السياسيين الطائفيين، لكنّ هذا الأمر هو الذي عاد للحدوث، وكأنّما نحن في العهود السابقة وما حدث تغيير ولا تبديل.

هذا لا يحدث في القضاء فقط، بل في سائر المرافق. وبالأمس أُعيد تعيين بعض أعضاء مجلس الإنماء والإعمار، ولضخامة كفاية السابقين الأفذاذ أُعيد تعيين معظمهم من جديد! في كلّ يومٍ كأنّما التاريخ يعيد نفسه، لكن كما قال كارل ماركس، التاريخ لا يعيد نفسه، لكنّه إنْ فعل فمرّةً مأساة ومرّةً ملهاة أو كوميديا. نحن للأسف نشمّ في كلّ شيء رائحة المأساة.

لا نخشى أن يعود النزاع الداخلي المسلَّح لأنّه لا أحد غير “الحزب” يملك السلاح، ولأنّه لا أحد يريد أن يشهر سلاحاً أيّاً يكن

ما يجري مع “الحزب” لا يذكّر بعهد ميشال عون فقط، بل وبعهدَي ميشال سليمان وإميل لحّود. في الدوحة 2008 قيل إنّنا سائرون نحو حوار من أجل الاتّفاق على الاستراتيجية الدفاعية، لكن بدلاً من هذه الشراكة التي كانت الدولة مجبرةً عليها، سيطر “الحزب” على الدولة على الرغم من التراجع في انتخابات الـ 2009 ومن دون حوارٍ ولا شورٍ ولا دستور. وصار همُّ المسؤولين أيّام الرئيس السابق التأكيد أنّ “الحزب” لا يتدخّل في الشأن الداخلي بسلاحه! لماذا؟ لأنّ محور المقاومة كلّه كان منهمكاً في تحرير سورية وفلسطين والمضيّ إلى ما وراء وراء حيفا وتل أبيب!

بعد ضربات الضاحية قبل أيّام هاج إعلاميون في “الحزب” وعلى جوانبه وقالوا إنّهم ضاقوا ذرعاً بالمتذمّرين الذين يخدمون العدوّ، وقالت مجموعة من أنصار المقاومة إنّهم ما عادوا يستطيعون الصبر، وبعضهم أراد التقدّم بشكوى للقضاء على هؤلاء الخونة المعترضين على سلاح “الحزب”.

السّلاح ما عاد يفيد

لكنّ السلاح ما عاد يفيد شيئاً ويشكّل حجّةً دائمةً لإسرائيل، فلماذا الحرص على الاحتفاظ به؟ لقد حصل ذلك بعد حرب عام 2006، إذ زاد سلاح “الحزب” وتنامتْ قُدراته. لكنّ القوّة الساحقة الإسرائيلية جعلت مقاومة “الحزب” لإسرائيل في أضعف درجاتها. وكما في حرب عام 2006 كان “الحزب” هو الذي هجم (في حرب الإسناد)، وجاءت الكسرة التي لا يجدي معها أيّ ترميم.

قال رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق غالب غانم إنّ الوقت ما يزال مبكراً للحكم على العهد والحكومة بالفشل

لا جدال في الشرّ الإسرائيلي الإجراميّ، لكنّ مقاومته ما عادت باليد. فلماذا المماحكات مع رئيس الحكومة ومع المجتمع الدولي ومع بعض الفرقاء الداخليّين؟!  نعم ما عاد بوسع “الحزب” غير عرقلة أعمال الدولة للحصول ولو على ميزات تذكّر بأيّام السطوة! إنّما المشكلة هذه المرّة أنّ الإسرائيليين والأميركيّين لا يتركون “الحزب” ولا يتركون البلد أيضاً. فالأمر ليس كما كان بعد النصر الإلهي عام 2006. والأشدّ معاناةً هم الشيعة الذين يُقتّلون وتخرب بيوتهم وتُدمّر أعمالهم. لكنّ الإسرائيليين ما اكتفوا بذلك، بل اعتبروا رئيس الجمهورية هو المسؤول، أي لبنان لا “الحزب” وحده.

الحزب

عندما سأل البعض “الحزب” عن فائدة السلاح الذي ما عاد صالحاً لمقاتلة إسرائيل، أجابوا: نحتفظ بالسلاح حتّى لا يجرؤ علينا أمثالكم! كيف سيجرؤ اللبنانيون الذين ما جرؤوا وهم يُقتلون ويُغتالون وتُحتلُّ عاصمتهم؟! وقال آخر: سلاح “الحزب” صار لحفظ المعنويّات تجاه الجمهور! لكنّ هذه الخاطرة ليست سليمةً أيضاً، لأنّ هذا الجمهور هو الذي يُقتل أفراده وتُدمّر محالُّهم ومساكنهم! فأين هي المعنويّات المحفوظة أو التي لا يحفظها إلّا شهر السلاح في وجوهنا لا في وجه إسرائيل؟!

الحجّة الأخيرة: جلاء الإسرائيليّ

تبقى الحجّة الأخيرة: لا ننزع سلاحنا أو لا نسمح بنزعه حتّى يجلو الإسرائيلي عن أرضنا ويتوقّف عدوانه! وهو مطلب حقٍّ لكنّكم ما عدتم مسؤولين عنه، بل الدولة هي المسؤولة، وأنتم ساعة تعيّرونهم وساعة تحيّونهم على موقفهم الصلب! وكلّ ذلك مقبول، لكن يبقى أنّ سلاحكم ما عاد مفيداً، وهو مضرٌّ بلبنان واللبنانيين فقط.

الموقف الأميركي عجيب بالفعل، لأنّه مثل الحِجاج البيزنطي: الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة! وهو دليلٌ على تغيير في موقف الإدارة الأميركية على الرغم ممّا يُقال عن نفوذ اللبنانيين فيها.

ما يجري مع “الحزب” لا يذكّر بعهد ميشال عون فقط، بل وبعهدَي ميشال سليمان وإميل لحّود

أريد أن أضيف أمراً على سبيل الخشية والتوقّع. منذ مدّة تعطّلت لجنة الرقابة على وقف إطلاق النار في الجنوب عمليّاً وتغيّر رئيسها الجنرال الأميركي جاسبر جيفرز. وفي الوقت نفسه  صار “الأهالي” يعترضون دوريّات “اليونيفيل”، وبخاصّةٍ إذا كانت وحدها غير مصحوبة بالجيش. بين 2006 و2023 كانت قوّات “اليونيفيل” موجودة في الجنوب، لكنّها ليست فعّالة. أمّا الجيش بأعداده القليلة فقد كان يغضّ الطرف عن إعادة بناء “الحزب” لمواقعه وأنفاقه.

بعد حرب الإسناد عام 2023 حاولت “اليونيفيل” أن تكون أكثر فعّاليّة مع الجيش غالباً، ومن دون الجيش أحياناً، فكان “الحزب” يرسل “الأهالي” لاعتراض مسارها، وقد جُرح أو قُتل بعض جنودها في حوادث.

ما عادت إسرائيل تأبه لوجود “اليونيفيل” والجيش، وترى أنّهم غير قادرين على نزع سلاح “الحزب”. والخشية من اتّفاق الولايات المتّحدة مع إسرائيل على عدم التجديد لها عندما يحلّ الموعد أمام مجلس الأمن بعد شهرين. وهذه مصيبة كبرى إن حدثت!

لا خشية من نزاع داخليّ

لا نخشى أن يعود النزاع الداخلي المسلَّح لأنّه لا أحد غير “الحزب” يملك السلاح، ولأنّه لا أحد يريد أن يشهر سلاحاً أيّاً يكن. لكن لا فائدة من القلوب المليانة والتصريحات الرنّانة وتصاعُد الأحقاد والترامي بالشتائم والاتّهامات. فهذا الإصرار والجمود هو شرٌّ على لبنان وعلى اللبنانيين، الذين ما يزالون يريدون العيش معاً بوصفهم مواطنين متساوين، وتحت سلطة دولةٍ واحدةٍ وعادلة، تحتكر حقّ حمل السلاح واستعماله.

بعد حرب الإسناد عام 2023 حاولت “اليونيفيل” أن تكون أكثر فعّاليّة مع الجيش غالباً، ومن دون الجيش أحياناً، فكان “الحزب” يرسل “الأهالي” لاعتراض مسارها

لنعد إلى بداية الحديث. يكتفي رئيس الحكومة بالمواقف الطهوريّة. ورئيس الجمهورية الذي استأثر بكلّ الصلاحيّات دونما اعتراض لإعطائه حرّية التحرّك في الخارج العربي والدولي، تبدو سياساته الخارجية قد استُنفدت وما بدت ثمارها سواء لجهة إسرائيل أو لجهة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة. أمّا في الداخل وعلى الرغم من الاستيلاء، فإنّ التكتيكات القديمة قد عادت والسياسيون يتحكّمون ويتساومون مع رئيس الجمهورية على المناصب والمشروعات،  كما كان عليه الأمر سابقاً.

قال رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق غالب غانم إنّ الوقت ما يزال مبكراً للحكم على العهد والحكومة بالفشل. وهذا صحيحٌ بالنظر لقصر المدّة، ولأنّ كلّ الملفّات بما في ذلك  ملفّات سلاح “الحزب” مضت عليها سنواتٌ وعقود، ولن تنحلّ في عدّة شهور! ومع ذلك انتهت إيجابيّات الصدمة، وقد استطاعت ضغوط “الحزب” والسياسيين أن تستوعب ضربات المفاجآت، بحيث عاد كلّ شيء إلى ما كانت تعهده.

لكنّ “الحزب” المسلَّح وحده لا ينبغي أن يطمئنّ، وذلك ليس لأنّ الرئيسين لا يتمهّلان معه، بل لأنّ الخارج الأميركي والعربي الذي لم يعد خارجاً، لن يمهل “الحزب” ولن يمهل لبنان! فليت عبّاس عراقجي وزير الخارجية الإيراني لم يزُر لبنان، وليت إيران تستغني عن “الحزب”،  كما اضطرّت إلى الاستغناء عن سورية، وهي التي ربّما كانت أهمَّ لها من بلاد الأرز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى