سلايدات

حِكمة العهد وأضرارها الجانبية

كتب نزيه درويش في المدن:

يأخذ كثيرون منّا على العهد تمهّله، وحتى مماطلته، في معالجة سلاح حزب الله كما ينتظر منه المجتمعان الدولي والعربي. في وقت تستمرّ فيه إسرائيل في مطاردتها عناصر الحزب ودكّ منشآته وتجهيزاته تحت الأرض وفوقها من دون رادع أينما وجدَت على امتداد لبنان. وسط إرادة واضحة من الحزب بعدم الرد، ولو رمزيًا، ما عدا بعض العراضات الاعلامية ذات وظائف داخلية مدروسة ومدوزنة لحشر الحكومة (رئيسها) وإضعافها، وبالتالي منعها من السير في تنفيذ خطوات جدية للتعافي (إن حاولت). حتى ليبدو أن كل طرف من الأطراف في ناحيته مرتاحٌ لما يحصل، بل متأقلم مع الأحداث، بانتظار نقلة دراماتيكية ما على رقعة الشطرنج.

ويبدو أن العهد (والجميع) يحسب أن كلفة هذا الانتظار، وهي باهظة بطبيعة الحال، تبقى أقلّ ثمنًا من فتح ملف تسليم السلاح والانتهاء منه في الوقت الحاضر، خصوصًا وأن الآمال المعقودة على المفاوضات النووية الاميركية الايرانية وما قد ينتج عنها لبنانيًا ما زالت مرتفعة. تزيّن فترة الانتظار هذه تأكيدات كلامية من رئيسي الجمهورية والحكومة على مواصلة السعي لتنفيذ ما تعهّدا به في خطاب القَسَم والبيان الوزاري لجهة حصرية السلاح وبسط سيطرة الدولة على كامل التراب. من دون أن يمنع ذلك بعض المناوشات والاحتكاكات من حين إلى آخر مع فريق الحزب (وجمهوره) ستنتهي حتمًا بجلسات ودّ وضحك وهزل وحب. لأن الجميع يعرف سقف المرحلة وما هو مطلوبٌ منه لتقطيعها على النحو الأمثل. وأغلب الظن أن الادارة الاميركية تشارك هي أيضًا في رعاية مرحلة الانتظار، وما التباسات تنحي/إقالة/استقالة/ترقية/طرد مساعدة مبعوث الرئيس الاميركي إلى العالم لشؤون الشرق الأوسط السيدة اورتاغوس إلا إعطاء اللاعبين مزيداً من الوقت لتدبّر أمورهم. إسرائيل تسرح وتمرح والحزب لا مانع لديه طالما وليّ أمره يتنزّه على طاولة المفاوضات بين الدوحة وروما، وطبعًا العهد ما زالت دفاتر حساباته تسجّل ربحًا نسبيًا طالما يطوي الأيام على خسارات تبقى تحت السيطرة مقابل فرصة ربح صيف يستثمر فيه بكامل طاقته كرافعة شبه وحيدة له قبل استئناف اللعب على الرقعة.

طبعًا للعبة الوقت الضائع هذه مخاطرٌ لا تقلّ جدّية عن تلك التي كانت لحرب الإسناد المستنِدة إلى توازن رعب حُكي عنه طويلا لتبرير امتلاك السلاح وتقديسه، واكتشفنا فجأة أنه كان توازنًا وهميًا لم يحمِ أحدًا بل استدعى الاحتلال والدمار والقتل والتهجير من جديد. فلا أحد، حاضرًا، بمَن فيهم الأميركي يستطيع ضمان بقاء الأمور تحت السيطرة. والضربة الأخيرة في وسط الضاحية الجنوبية لبيروت، على بعد أمتار من المطار الدولي الذي يستعدّ لاستقبال السياح الميمونين، مثالٌ لما تنوي اسرائيل اتّباعه معنا حكمًا وحكومة وجيشًا وشعبًا. وغنيٌّ عن القول إذا ما تكرّر ذلك ستتبخّر كل الآمال بصيفية واعدة تتهيّأ الدولة للترويج لها كإنجاز (اقتصادي) شبه وحيد بعد أن تبيّن جليًا أن لا أموال عربية أو دولية ستأتي للاستثمار أو للإعمار قبل تسليم السلاح ونزع  ذرائع أي اعتداء اسرائيلي جديد، وردميات الدمار السابق لم تُرفَع بعد.

بعضنا يعتبر أن الحكم يتصرّف بحكمةٍ وروية، ويروّج لموافقة ضمنية خارجية على هذا التصرّف. ولكن لقياس مدى “الحكمة” من ذلك علينا استعراض بعض الحقائق المواكبة لها والتي قد تشكّل اليوم أضرارًا جانبية لا أحد يعلم متى تصبح أعطابًا أساسية!

أضرار جانبية؟
أول الأضرار، وقد يكون أخطرها، هو ما يتعلّق بتعثّر مسيرة الاصلاح. فالحكم القائم اليوم المُنادي عن حق بالاصلاحات لم يأت نتيجة ثورة على النظام القائم وإنما بواسطة هذا النظام بالذات الذي انحنى أمام موازين القوى الاقليمية المستجدّة بعد “طوفان الأقصى” وخطأ حسابات محور الممانعة. ولكن، ولأنه أتى بتوافقات بالمفرّق، انتخاب الرئيس على حدة وتسمية رئيس الوزراء على حِدة آخر مختلف، وليس في صفقة “باكيج ديل” متكاملة، فلن تلبث الطبقة السياسية المنحنية ظرفيًا أن تعاود الانقضاض مطالبةً بالأثمان على جاري عادتها مُتجاوزة خطاب القسم والبيان الوزاري والوعود التي قُطعَت أيضًا بالمفرّق. ورئيسا الجمهورية والحكومة لن يستطيعا، والحال داخليًا على ما هو من دون تغيير ملموس، سوى تأدية هذه الديون، كلّ واحد منهما بحسب “حصته” منها. من هنا سنرى الشرخ بينهما يتسّع شيئا فشيئا لتطلّ من تشقّقاته الطبقة السياسية نفسها التي اعتقدنا عن خطأ وعن سذاجة أنه آن أوان محاسبتها أو على الأقل تقاعدها. ستطل تارة على شكل مستشارين وموظفين وتارة على شكل حملات ضغط إعلامية منظمّة، ومموّلة وتارة أخرى على شكل فوزٍ في انتخابات وتزكيات “حرة” من أي قيد. وعادت الترويكا، وإن بخجل، وهي لم ترحل أصلا إلا في أوهامنا. وليست التعيينات المنجزة، وتلك المتعثّرة، سوى ترجمة لحضورها بقوة وجهوزية تامة مع ما يستتبعه ذلك من استنفار باقي المكوّنات للمطالبة بحصصها هي أيضًا. فيتقزّم الاصلاح وينتهي إلى بعض الخطوات العشوائية وهي في معظمها إلى الآن تشريعية مطلوبة من الجهات المدينة والمانحة كحدٍ أدنى لقبولها التفاوض معنا. وكلّنا يقرّ أن أفضل القوانين وأكثرها دقة وشمولا وعدالة بحاجة إلى أدوات تنفيذية نزيهة وفعّالة ومحايدة، ليس على نمط الإدارة التي تعوّدنا عليها وتعوّدت التفلّت من أي رقابة وعلى الانحياز إلى وليّ نعمتها في نظام يعيد إنتاج المتولّين والأولياء الفاسدين.

ضررٌ كبيرٌ آخر يلحق بسرعة تعثّر الاصلاح الحقيقي المستدام، وهو صعوبة إقناع الخارج بما نفعله. الولايات المتحدة والمملكة السعودية، رُعاة العهد الجديد للبنان، إلى جانب دول الخليج الأخرى وأوروبا وصناديق المال والتنمية الدولية، وحتى المستثمرين اللبنانيين في الخارج، لم يشتروا وعودًا لطالما تعوّدوا على سماعها منّا. اعتقدوا لوهلة أن السيادة والاصلاح في لبنان خطّان متوازيان يسيران معًا ولكن بشكل منفصل. فلا بأس إن أراد لبنان وضع مسألة السلاح جانبًا بانتظار المفاوضات كما ذكرنا سابقًا، ولكن لنرى جدّيةً في الإصلاح. غيرُ مُدركين لتشابك الخطّين وفَشكلة أحدهما للآخر في محطات كثيرة. انتهت “فترة السماح” واكتشف الجميع أن تفكيك المشكلات ليس دائمًا صائبًا، وأن إصلاح الدولة لن يستقيم قبل قيام الدولة فعليًا. فالدولة الموجودة منذ توقف الحرب ليست سوى خدعة بصرية غطّت مزارع وإقطاعات عشّش فيها الفساد ونخر أساستها التي عاد وأجهز عليها حمَلَة السلاح وارتهانهم للخارج وقدرتهم على القيام بمغامرات على الحدود الجنوبية والشرقية وخارجها مع ما يستتبعه ذلك من احتلالات واعتداءات وتدمير وتهجير مستمرّ.

نتيجة كل هذا ضررٌ جانبيٌّ آخر: إعادة إعمار ما تهدّم. وما تهدّم ليس أقل من ثلث بنية لبنان، تحتية وفوقية، وخسارة ممتلكات ومقتنيات الآف العائلات بشكل شبه كامل، إضافة إلى مصادر رزقهم وأعمالهم، إلى خساراتهم البشرية التي قد لا تخلو عائلة منها. بات واضحًا اليوم أن الاعمار سيتأخر إلى ما بعد تسليم السلاح والسير قُدمًا في الاصلاح، وأننا مرّة جديدة عدنا صاغرين إلى الخطوط المتوازية ولكن المتشابكة.

من هنا أخشى أن تمهّل الخارج المزعوم ليس سوى إهمالٌ للقضية اللبنانية من جديد، ولن يُصرَف إلا من رصيد العهد وزَخَمه بدل أن يصبّ في هذا الرصيد. وستستغلّه إسرائيل في تطبيقها على طريقتها لاتفاقٍ لا نعرف إلى اليوم ماهيّة ملحقاته. ولكن غضّ نظر اللجنة الخماسية التي أنتجته ورَعَته يشي بتأييدها الضمني وأحيانًا العلني لهذا التطبيق.

في الانتظار لا يبدو أن حوار رئيس الجمهورية مع الحزب قد أقنع الأخير بوضع خطة زمنية لتسليم سلاحه كاملا ولا حتى بإصدار بيان نوايا بهذا الخصوص. ولا نعرف متى سينفذ صبر المجتمع الدولي والعربي، ولكن الأكيد أن الصيفية القادمة على أبوابنا ستكون حارّة بلا ضمانات وبلا مكيّفات!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى