سلايدات

الخيارات الكارثية التي دمّرت مجتمعاتنا

كتب علي مراد في المدن :

نعيش لحظة تحولات تاريخية بكل ما تحمله من ثقل ومسؤولية. لحظة لا تقاس بضجيج الشعارات، بل بما تكشفه من عمق التصدّع والانكشاف. إنها لحظة تستدعي قراءة شاملة، نقدية، شجاعة وصادقة، تضعنا أمام مرآة عقود من الخيارات الخاطئة والخذلان المتكرر، باسم القضايا الكبرى، وفي مقدّمها فلسطين.

لأكثر من ثلاثين عاماً، حوّل المحور الإيراني وحلفاؤه القضية الفلسطينية من قضية تحرّر وحقوق شعب، إلى أداة سياسية في مشروعه التوسعي. استُخدمت فلسطين لتبرير الانقلابات على المجتمعات، لتسعير الصراعات الطائفية، للدفاع عن الطغاة، لقمع الحريات، ولتفكيك الدول من الداخل. لم يكن الهدف تحرير الأرض، بل تثبيت سلطة السلاح فوق القانون، وفرض هيمنة إقليمية تخدم المشروع النووي الإيراني أولاً، وتُحكم قبضتها على العواصم العربية من بغداد إلى دمشق، ومن بيروت إلى صنعاء.

وبمعزل عن النوايا لدى البعض -لأن لا قيمة للنوايا حين تتراكم الكوارث- فإن إيران، بسياساتها هذه، وحلفاءها معها، هي بالنتيجة من مهّدت الطريق أمام إسرائيل لتتحوّل إلى القوة الإقليمية الأولى المهيمنة في منطقتنا، كما تشي الأحداث المتلاحقة. من حيث يدّعون المواجهة، صنعوا لها الفراغ، وأسّسوا لعصر تتوحّش فيه إسرائيل وتضرب بلا رادع. وإذا لم يجرؤ أحد على الاعتراف بهذه الحقيقة، فلن نستطيع أن نعيد بناء مجتمعاتنا، ولا مواجهة التحديات المقبلة، وسنبقى أسرى خطاب شعاراتي عقيم.
هكذا، تم تفتيت الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي. ضُربت المؤسسات، تحوّلت الجيوش إلى هياكل فارغة لحساب الميليشيات، وقُوّضت فكرة المؤسسات لحساب الولاء للمحور لا للدولة. وسقطت فكرة الدولة كإطار جامع، وسقط معها كل أفق للديمقراطية والمواطنة والسيادة.

في موازاة ذلك، جرى العمل الحثيث على تجريد الناس من حقها الطبيعي في التضامن مع فلسطين، فقط لأنهم رفضوا عباءة “الممانعة”. صار كل من يطالب بدولة القانون، أو يعترض على هيمنة السلاح، متهماً بالخيانة أو بالعمالة. فاختُزلت القضية في خطاب فوقي يحتكر المعنى، ويقصي الشعوب، ويحوّل فلسطين من قضية تحرّر إلى وسيلة تسلّط.

وليس ما نعيشه اليوم سوى تكرار جديد لما حصل في العامي 1948 و1967 وما أنتجه استبداد البعثيين والعقيد وأشباههم. ففي كلتي النكبتين وما تلاهما، لم تُهزم مجتمعاتنا فقط بسبب قوة الاحتلال، بل أيضاً بسبب هشاشة الداخل، واستلاب الإرادة، وغياب الحرية. وعندما تُحكم المجتمعات بالسوط، تحت راية “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، فإنها تفقد القدرة على المواجهة، لأن الاحتلال لا يُهزم باستبداد الفكرة، بل بحرية الإنسان.

وإذا كنا اليوم على مشارف “العصر الإسرائيلي” بقوة الحديد والنار، فالمسؤولية لا تقع عليها وحدها، بكل ما تمارسه من فاشية وعدوان، بل على من سهّل لها الطريق، وأفرغ المجتمع العربي من شروط القوة، وجعل من التخوين نظاماً للحكم، ومن الشعارات قناعاً للفشل، ومن السياسة أداة لتعطيل التفكير والمحاسبة.

إن أخطر ما خلّفه هذا النهج هو قتل السياسة باسم فلسطين، وقتل المجتمعات باسم القضايا الكبرى، وتعطيل الفعل السياسي تحت ذريعة المعركة المفتوحة. واليوم، يتكرّر كل ذلك من جديد: الخطاب نفسه، التهديد نفسه، الهروب إلى الأمام ذاته، فيما إسرائيل تواصل ارتكاب الإبادة وتوسيع نفوذها بلا أي رادع.

فلا مناعة للمجتمعات، ولا تنمية، ولا رخاء.. من دون ديمقراطية. فالدولة لا تُبنى بتكديس السلاح خارج القانون، ولا بإلغاء السياسة وتحويلها إلى آلة شعارات. السياسة، في جوهرها، هي تحسين ظروف الناس، حماية كرامتهم، وضمان حقوقهم. وكل من صادر السياسة، واحتكر القضايا، وعطّل الدولة، هو من يتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا وصلنا إليه.

هذه ليست لحظة للاستمرار في الهروب إلى الأمام، بل لحظة تستوجب التوقف امام الخيارات الكارثية التي دمّرت مجتمعاتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى