سلايدات

النّظام الإيرانيّ لا يسقط من فوق..

كتب أمين قمورية في اساس ميديا :

تشي كلّ مؤشّرات الحرب الإسرائيلية المدعومة أميركيّاً على إيران بأنّ الخطّة تهدف إلى أمرين: فرض تسوية بالقوّة على طاولة المفاوضات تنهي البرنامج النووي الإيراني وتترك النظام يتآكل من الداخل بالفوضى الشاملة، أو مواجهة إلغائيّة تقود إلى هزيمة مدوّية تؤدّي إلى إسقاط حكم الملالي.

 

ايران حالة سياسية خاصّة ومركّبة تتداخل فيها التحدّيات الداخلية مع المواجهات الخارجية، وهو ما يجعل حراكها الشعبي والمعارضة السياسية فيها عصيَّين على الفهم وشديدَي التقلّب على وقع الظروف المحلّية والإقليمية. منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، اتّخذ النظام الإيراني الطابع الديني ـ السياسي الذي يهيمن عليه رجال الدين مدّعمين بقوّة مسلّحة ثوريّة لمنع أيّ انحراف عن خطّ الثورة الخمينيّة وتصحيح المسار.

ترك هامشاً محدوداً من المشاركة الديمقراطية تحت سقف النظام. أبقى على معارضة داخلية شكليّة تجسّدت خصوصاً بالصراع السياسي بين تيّارات عدّة أبرزها: التيّار الإصلاحيّ الذي عمل من داخل مؤسّسات الدولة ساعياً إلى توسيع الحرّيات وتحسين علاقات إيران الدوليّة، ويقابله تيّار محافظ يهيمن على أجهزة الدولة العميقة ومهمّته تقييد نزعات التغيير لدى الإصلاحيين. وتبعاً لمناخات الضرورات الخارجية أو المحلّية، تُركت واجهات العمل السياسي مرّات للمعتدلين والإصلاحيين ومرّات أخرى لخصوهم الراديكاليّين.

من ثغرة الإخفاقات الاقتصادية وقمع الحرّيات والفجوات بين الأجيال، خرجت معارضة شعبية أكثر راديكاليّة تجلّت في موجات احتجاج متكرّرة على مدى السنوات الماضية، كان أبرزها حركة 2009، واحتجاجات 2017 و2019، ثمّ احتجاجات 2022 التي فجّرتها حادثة مقتل الفتاة مهسا أميني. أمّا المعارضة التي جعلت تغيير النظام هدفاً لها، فكان مصيرها المنافي أو السجون أو القبور.

الاجتياح البرّي في الحالة الإيرانية شديد التعقيد لا تسهّله الجغرافيا ولا الموقع الجيوسياسي ولا وجود معارضة مسلّحة محلّية في الميدان

النّظام لا يسقط من فوق

في الوقت الذي راحت فيه هذه المعارضات تنمو وتشتدّ نتيجة تفاقم الأزمات الداخلية إلى حدّ الانفجار، جاءت الحرب الحالية بين إيران وإسرائيل لتعيد ترتيب المشهد السياسي الداخلي. أجّج التدمير الممنهج لمقدّرات الدولة وضرب الطموح النوويّ، الذي يشكّل شبه إجماع بين الإيرانيّين، شعوراً قوميّاً ودينيّاً مؤقّتاً لدى شريحة واسعة منهم دفعهم إلى الالتفاف حول حكومتهم. ليس هذا الدعم بالضرورة تعبيراً عن الرضا عن النظام أو الخوف عليه، بقدر ما هو ردّ فعل تجاه العدوان الخارجي على وطنهم والإحساس بفقدان العدالة في المواقف الدولية.

هزّ اغتيال رهط القادة العسكريين الكبار بلمحة بصر، وضرب الدفاعات الجوّية والمرافق العسكرية والاقتصادية والمنشآت النووية، الدولة والحرس الثوري وكشف خللاً هائلاً في جسم النظام وأظهر صدعاً أمنيّاً واستخباريّاً كبيراً لا يسهل ترميمه. لكنّه لم يُفقد مرشد الجمهورية الإسلامية قبضته الحديدية، بل ربّما عزّزها وأطلقها وأسقط الكثير من الحواجز أمامها.

النظام

باتت كلمته هي الفصل والحلّ الوحيد، الأمر الذي دفع بإسرائيل إلى تهديده وجعل رأسه الهدف الأخير، بكلّ ما تحمله مغامرة من هذا النوع من مخاطر تتعدّى اللحظة الحربية والمعركة الدائرة الحالية إلى ما هو أدهى. ذلك أنّ أمراً كهذا قد يكون نقطة التحوّل الأخطر إقليميّاً والحدّ الفاصل بين ضبط النفس والفوضى الشاملة. سيؤدّي تغييبه في ظلّ الحرب إلى استحالة وجود جهة يمكن التفاوض معها على التهدئة. اعتبر دونالد ترامب نفسه أنّ خطوة من هذا النوع قد تؤدّي إلى نتائج غير محسوبة، وقال: “هذا آية الله نعرفه، مقابل آية الله جديد لا نعرفه”.

تغيير النظام وإسقاط حكم خامنئي سهل لفظيّاً لكنّه صعب عمليّاً ويحتاج إلى ظروف غير متوافرة في إيران حاليّاً. أنظمة كهذه لا تسقط من فوق بالغارات الجوّية والمسيّرات والمفخّخات. نظام صدّام حسين في العراق لم يُسقطه الحصار ولا مناطق الحظر الجوّي ولا إجراءات “النفط مقابل الغذاء”. سقط بالغزو البرّي. كذلك حصل للنظام الأوّل لحركة “طالبان” في أفغانستان.

لم ينتج سيل الاحتجاجات المتكرّرة في الأرجاء الإيرانية على مدار عقود، معارضةً موحّدةً ومنسجمة، بل معارضات متنافرة

الاجتياح البرّي في الحالة الإيرانية شديد التعقيد لا تسهّله الجغرافيا ولا الموقع الجيوسياسي ولا وجود معارضة مسلّحة محلّية في الميدان، على غرار “البشمركة” الكرديّة وميليشيات “بدر” وحزب الدعوة في العراق، و”تحالف الشمال” في أفغانستان. يحتاج التغيير إلى رافعات مادّية، من قوى معارضة منظّمة ومشاريع سياسية بديلة وقيادات تمتلك برامج، تتحوّل إلى حقائق ملموسة.

معارضات غير منسجمة وحضور ضعيف

لم ينتج سيل الاحتجاجات المتكرّرة في الأرجاء الإيرانية على مدار عقود، معارضةً موحّدةً ومنسجمة، بل معارضات متنافرة أيديولوجيّاً وسياسيّاً وحضورها المنظّم داخل البلاد ضعيف ومشتّت.

أبرز الطامحين إلى الاضطلاع بدور البديل:

– رضا بهلوي، آخر وريث للعرش الملكيّ بعدما فرّ والده آخر شاه لإيران محمد رضا بهلوي، في عام 1979 مع اندلاع الثورة. صحيح أنّ لديه مؤيّدين بين الإيرانيّين في الخارج وإحاطة إعلاميّة أميركية وبريطانية. لكنّ شعبيّة عودة الملَكيّة لم تُختبر في إيران. الغالبيّة العظمى من الإيرانيين هم من الشباب الذين لا يعرفون شيئاً عن مرحلة ما قبل الثورة. وثمّة آباء كثيرون لهم يتذكّرون من الحقبة الشاهنشاهيّة التفرقةَ الطبقيّة والقمعَ الذي لا يقلّ عن قمع النظام الذي ورث الحكم بعده.

– منظّمة “مجاهدين خلق”، التي تمزج يساريّتها بأفكار إسلاميّة، فقدت الكثير من زخمها بعد طرد قيادتها من العراق إلى ألبانيا. وخسرت صدقيّتها لدى أطياف واسعة من الإيرانيين بوقوفها إلى جانب “أعداء” بلادها في الحرب العراقية الإيرانية. وعلى الرغم من ادّعائها أنّها المحرّك الرئيسي للاحتجاجات في الداخل، لم تتمكّن مرّةً واحدةً أن تكون قطباً جامعاً للمعارضات الإيرانية الأخرى، لا سيما الحقوقيّة منها التي تأخذ على “مجاهديها” انتهاكاتهم وبعض ممارساتهم، وإن كان قائدها مسعود رجوي الغائب عن الأنظار، وزوجته مريم الحاضرة في المحافل الأوروبيّة، يتمتّعان بتاريخ نضاليّ لمناهضتهما حكمَي الشاه ورجال الدين.

اتّخذ النظام الإيراني الطابع الديني ـ السياسي الذي يهيمن عليه رجال الدين مدّعمين بقوّة مسلّحة ثوريّة لمنع أيّ انحراف عن خطّ الثورة الخمينيّة

– الحركات السياسية والمسلّحة للأقلّيّات العرقية، مثل حزب “كومله” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني” الكرديَّين، و”جيش العدل” البلوشيّ، الطامحة إلى انتزاع نفوذ أكبر داخل أيّ نظام بديل عن الحالي، أو حتّى المطالبة بالحكم الذاتي أو الانفصال الجغرافي، لا سيما في المناطق ذات الغالبيّة العرقيّة. والكرد والبلوش مثل العرب والأذريّين والتركمان وغيرهم لا يخفون استياءهم وغضبهم تارةً من التمييز الديني ضدّهم، وطوراً من الغلبة الفارسية والشيعية. لكنّ غياب المشروع الجامع قد يفتح الباب أمام نزعات انفصالية تهدّد وحدة إيران، وهو سيناريو ربّما تدفع نحوه واشنطن وتل أبيب لإغراق طهران في المزيد من التشتّت.

– المعارضة المدنية التي قادت الاحتجاجات المطلبيّة الداخليّة، على غرار “الحركة الخضراء” والحركات النسوية ونقابات العمّال والمعلّمين، تعرّض الكثير من رموزها للاعتقال أو الإقامة الجبريّة أو النفي أو المنع من العمل. وتعاني مثلها مثل التيّارات اليساريّة والأحزاب الوطنية المنحلّة من التشرذم والافتقار إلى القيادة السياسية المنظّمة وقلّة التأثير العمليّ. لكنّها تتمتّع برصيد معنويّ وشعبي، لا سيما في أوساط الطبقات الباحثة عن بديل إصلاحي لا ينتمي للمشروع المتشدّد ولا للمطالب الانفصالية أو الجماعات المسلّحة.

– أمّا التيّار الإصلاحي في داخل النظام الأقدر على تولّي أيّ مرحلة انتقالية مفترضة، فيحتاج إلى توحيد صفوفه الداخلية وتجاوز حالة الانقسام وفقدان الثقة التي خلّفتها سنوات من الإقصاء والتهميش، واستعادة الشرعية الشعبية، وبناء تحالفات سياسية ومدنية متماسكة داخل إيران وخارجها.

تغيير النظام وإسقاط حكم خامنئي سهل لفظيّاً لكنّه صعب عمليّاً ويحتاج إلى ظروف غير متوافرة في إيران حاليّاً

سيناريوات ما بعد إسقاط النّظام

إنّ الدفع الأميركي والإسرائيلي نحو إسقاط النظام من دون توافر بديل وبلا خطّة واضحة لمرحلة انتقالية قد يرمي بإيران والمنطقة في سيناريوات أحلاها مرّ:

– إعادة إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة لن تكون بالضرورة أقلّ تشدّداً ممّا سبقها.

– انقلاب ينفّذه ضبّاط من الحرس الثوري أو الجيش يبعد رجال الدين عن مفاصل السلطة وينقل إيران من ثيوقراطية إلى ديكتاتورية عسكرية.

– الفوضى الشاملة على النموذج العراقي أو الليبي إذا ما تفكّكت مؤسّسات الدولة المركزيّة، خصوصاً الجيش والحرس الثوري، فتتفاقم الأزمة بدلاً من حلّها.

– اضطرابات داخليّة تنتقل إلى الإقليم وتتوسّع، وقد تكون لها ارتدادات عالميّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى