
بقلم سعيد الحسنية:
في زمن غابر، لا يؤرخه مؤرخ ولا يذكره كتاب، لم تكن هناك أرض ولا سماء، بل صمت يتسكع بين النجوم، وفي قلبه نبض لا يسمعه أحد.
ومن ذلك الصمت خرج رجل لا يعرف اسمه إلا الريح، ولا يعرف وطنه إلا الغيم. لم يحمل سيفاً، بل ابتسامة. لم يتبعه جنود، بل ظل خفيف يشبه الوعد.
قال: جئت من أجل الخير. وقال الناس: هو نبي. وقال آخرون: هو تاجر يتدثر بثياب النقاء. وظل السر يلفّه كما يلفّ الليل أسرار الحالمين، لم يُعرف يقيناً من يكون.
كان يمرّ بالممالك كما تمرّ الروح فوق الجسد، لا يطلب شيئاً، يزرع الأمل، يوزع وعوداً كأنها من ذهب، لا يأخذ، بل يزرع أزهاراً من الكلام ويتركها خلفه، تنمو على حجارة المدن وتتعانق مع ضوء الفجر.
وفي صباح نسيه الزمن، ركب سفينة نُسجت أشرعتها من الحنين، ومضى. في عينيه نور بريق وعد لا ينكسر.، وفي يده خطب تشبه صلوات الفجر، وابتسامة لا تخفي سراً.
قال: ما جئتكم لأملك، ولم أت إليكم لأربح. إنما جئت لأعطي، وأعطي، وأعطي.
لكن من يعطي دون أن يُسأل، ومن يعد دون أن يُطالَب، لا بد أن يُسأل: من أنت؟
والسؤال الكبير ظل معلقاً: أهو قديس حقاً، أم أنه لا يترك خلفه سوى الكلام؟
حين لامست سفنه أول شواطئ الدولة، تنفست الأرض الصعداء، وخرجت الجموع بالدفوف والبخور تستقبله كأنهم كانوا ينتظرونه منذ ألف عام. عزفوا له المزامير قرعوا الطبول، وغنّت له البحار، وفتحت له القلوب كما تُفتح الأبواب للعائد بعد طول غياب.
خطبهم كما يخطب النور قلب الظلام. كانت خطبه أعذب من ندى الصباح، ووعوده أوسع من شمس الصيف، والعيون التي سمعت صدقت دون سؤال. قال لهم: جئت من أجل أطفالكم، من أجل سلام لا يعرف السلاح، من أجل كرامة لا تُشترى بالمال ولا تباع ببضعة دننايير فضة.
فبكوا، وصفقوا، هللو، فتحوا خزائنهم، وأعطوه الذهب والمفاتيح والقلوب. لم يطلب شيئاً، لكنهم أعطوه كل شيء.
ثم رحل. ومضى إلى ارض أخرى، ثم أخرى، ثم تلك التي لا تفتح أبوابها حتى للملائكة. وفي كل مرة، كانت الحكاية تُعاد كأنها قدر: وعدٌ، تصفيق، ذهب، غياب ووداع يليق بالأساطير.
وقالوا إن السماء تمطر حين يغادر، لكن الحقيقة أن الأرض كانت تجف، وكان الصدى يختبئ في جيبه كما يختبئ السر في قلب العاشق.
اجتمع بالملوك والحكماء والأمراء. لم يتحدث عن المال، بل عن الأخلاق. لم يساوم على العقود، بل على النور. لكن كل مجلس انتهى بورقة موقعة لا يعرف أحد ما كُتب فيها، كأنها عهد لا يُقرأ إلا في الليل.
وفي النهاية، لم يلقِ خطبة، لم يودع، لم يرفع يده للجموع. بل صعد إلى سفينته بصمت، ووراءه الصناديق. قالوا: هدايا. قالوا: تبرعات. ولم يسأل أحد لماذا لم تبقَ هنا، ولماذا أخذها جميعاً معه، ولم يجرؤ أحد على السؤال: لماذا أخذ كل هذا معه؟ ألم يأتِ ليعطي؟
وغادرت سفنه، وغرقت في الضباب، كأنها لم تكن.
لكنها تركت خلفها تماثيل من كلمات، وأناشيد من وعود تتغنى برجل قيل إنه نبي، أو قديس وربما مجرد درويش، جاء من أجل السلام، ورحل بعدما أنقذ الجميع وأغرقهم في سبات أحلام اليقظة والوعود المنثورة في أرجاء الأودية، والتي لا يُسمع صداها إلا مع رشفات قهوة الصباح المتمايلة على وقع صوت “فيروز”. رحل وترك خلفه أطفالاً يحلمون به كما يُحلم بالمنقذ.
أما الذهب المكدس، فظل صامتاً لا يتكلم. وأما الوعد، فباتت طير فنيق يحلّق في فضاء الوهم، يلاحق ظله الأطفال على الأرض، ولا يمسكه أحد.
ذهب ذلك الرجل مع نسمات الصباح، وذهبت وعوده مع الريح، وبقيت الجموع في انتظار عودته التي قد تطول وتدوم.
وها هي الجموع، التي لم ولن تستيقظ من سكرتها، ستبقى في سباتها العميق، تصم أذانها عن كلمات ترانيم طيور أيلول وهي تقول:
من وراء الغيم جاء… قال إنه يعطي ولا يأخذ
مضى بكل شيء … وترككم تنتظرون
أتظنون أنه سيعود؟
أم ستبقون في انتظار “غودو”؟