سلايداتمحليات

قصة موفدين لبنانيين اميركين

كتب رفيق خوري في نداء الوطن:

لا شفاء في لبنان من إدمان الاتكال على الموفدين والزوار. وليس الانشغال السياسي والإعلامي بالتحليل والتفسير والتبصير حيال كل ما يقوله موفد أميركي أو فرنسي، وما لا يقوله موفد سعودي أو قطري، سوى انعكاس للخواء السياسي في البلد المملوء بالثرثرة السياسية والبيانات الإنشائية المتدفقة من كل الاتجاهات. أما الرهانات على مواقف الموفدين والزوار والارتياح إلى تدخلهم في شؤوننا الداخلية قبل الخارجية، فإنها ارتهانات مجانية لسياسات ليست في يدنا ولما لن يفعله أحد بالنيابة عنا. وأما «تلزيق» المواقف المختلفة لأمراء الطوائف تحت عنوان الوحدة الوطنية، فإنه خداع للنفس لا للآخرين.

ذلك أن المبالغة في الحكمة تؤدي أحياناً إلى مفاعيل التهور. والتشدد في حسابات الأخطار والفرص تقود إلى الشلل باسم الحفاظ على الاستقرار. ففي تأجيل التغيير مجازفة بالتغيير في لعبة الوقت الذي هو «كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، حسب المثل. وفي إدارة المتغيرات بقواعد اللعبة القديمة، ولو موقتاً، كثير من التسليم بأن «الستاتيكو» المدمر الذي تجاوزته التحولات قابل للبقاء بقوة الخوف من التغيير لدى فريق، وقوة الخوف من كلفة التغيير لدى فريق آخر.

ولا حديث في البلد يتقدم على المواقف المتسارعة للموفد الأميركي توم براك. فهو مثل رئيسه وصديقه دونالد ترامب يقول أي شيء وكل شيء، ثم يأتي التصحيح والتلميح ودفع الناس إلى الفرق في التفاصيل والبحث عن الأساس بينها على طريقة المثل الأميركي القائل: «أين اللحم في هذه الصلصة؟». ونحن مثل الذين قرأوا رواية «كوخ العم توم» الإنسانية، نتصور أن توم براك الأميركي من أصل لبناني يمكن أن يترك لعاطفته اللبنانية بعض التأثير في عقله الأميركي. وهذه تجربة مررنا فيها من قبل في ثمانينات القرن الماضي مع موفد أميركي آخر من أصل لبناني هو فيليب حبيب، الذي اختار لكتابه بعد تقاعده وإنهاء مهمته عنواناً بالغ التعبير: «ملعون صانع السلام».

فيليب حبيب دبلوماسي محترف بلغ القمة في الخارجية الأميركية وكان الرئيس الأميركي رونالد ريغان يستلطفه لأنه صاحب نكتة. كما كان الرئيس حافظ الأسد يتكل عليه في المفاوضات غير المباشرة مع مناحيم بيغن وفي تجميل صورته في البيت الأبيض. ولم يطلب الأسد من ريغان تغييره إلا بعدما خسر مكانته عند بيغن بسبب رفضه لرغبة ريغان في إيجاد حل للموضوع الفلسطيني بعد اجتياح إسرائيل للبنان. وكان حبيب يصف مهمته في المثلث السوري-اللبناني-الإسرائيلي بأنها نوع من شغل «بائع السجاد». لماذا؟ لأن بائع السجاد يحمل بضاعته على كتفه ثم يضعها على الأرض حين يدخل أي محل أو بيت، ويستمر في عرض ما يحمله من سجاجيد وأسعارها والترغيب فيها، فلا يغادر المكان من دون أن يبيع قطعة ما.

ومع أن حبيب كان يقول في بيروت للمسؤولين «إن أميركا تحب النجاح ولكنها تغادر فوراً عند التعثر»، إلا إنه عمل بجهد وصبر لتسوية أزمة مسلحة بين سوريا وإسرائيل وإتمام وقف نار بين تل أبيب ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1981، ثم لترتيب بقاء القوات السورية في البقاع والشمال وانسحابها من بيروت والجنوب، وخروج منظمة التحرير بقيادة عرفات من بيروت وانتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية عام 1982 ثم متابعة الأمور بعد اغتيال الجميل. وهو كان قليل الكلام خارج الاجتماعات، ولم يكن يظهر على التلفزيون أو يتحدث في الإذاعة عن مهمته. لا بل كان يقول لأصدقائه: هل تعرفون كيف يكون اجتماع العمل مع ريغان؟ كان الرئيس الأميركي يقول لي: هاي فيل، هل كل شيء تحت السيطرة؟ فأقول نعم، فيطلب ريغان آخر نكتة ونبدأ برواية النكات.

توم براك ليس دبلوماسياً بل مقاول ورجل أعمال صديق لدونالد ترامب. وهو إلى جانب تعيينه سفيراً في تركيا، موفد إلى سوريا ولبنان ومتحرك في المثلث السوري-اللبناني-الإسرائيلي مثل حبيب. لكنه يصر على التركيز بأن رئيسه المقدام قليل الصبر. ويوحي أن بلاده مستعدة لترك لبنان يقلع شوكه بيديه إذا لم يقم المسؤولون بالمهمة المطلوبة لهم ومنهم: السلاح والإصلاح. فلا هو من النوع الذي يمارس سياسة «بائع السجاد»، ولا هو يقلل من الكلام في العلن أمام الإعلام. ولا أحد يعرف التمييز بين ما يقوله ارتجالاً برأي منه وبين ما يقوله مدروساً باسم رئيسه. فما هي حظوظ النجاح أمام براك؟ وماذا تفعل بيروت بالفرصة المفتوحة أمامها إذا كانت واشنطن تركز الضغوط عليها فقط من دون فعل شيء؟

ليس أمامنا سوى الرهان على قول نيلسون مانديلا: «الأمر يبدو دائماً مستحيلاً حتى يحدث»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى