
كتب قاسم يوسف في اساس ميديا:
لمثلِ هذه المِحن خُلق وليد جنبلاط. ولأن التاريخ يأبى إلّا أن يُنصف من هم على سجيّته، فتح له أشرف المعارك في شتاء العمر.
انتصر وليد جنبلاط. وهو انتصار لا يوازيه شيء. وقف في وجه بنيامين نتنياهو واليمين الفاشيّ في إسرائيل بشجاعة. ثمّ وقف في وجه الرؤوس المشتعلة والشعبويّات القاتلة. كان يدرك تمام الإدراك أنّه في الجانب الصحيح من التاريخ، وقدره أن يحمل الراية وأن يتقدّم كل الصفوف، ليس دفاعاَ عن الدروز وعن عروبتهم، وهم أهل الأرض وزرعها وملحها، بل صوناً للكرامة وانعاشاً للذاكرة وإقراراً للحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
أهميّة هذا الرجل باتت تتجاوز زعامة الجبل. هو ركن الزاوية في الصورة العربية الأوسع والأشمل. وهو العاقل في أزمنة الريبة والجنون.
تعرّفنا إلى وليد جنبلاط وعرفناه وخبرناه على مدى سنوات طوال. منذ حكايته الأولى مع المقاومة الشهيدة إلى يمين ختيار فلسطين وأيقونتها، ومن ينسى صورته وهو يُطلق النار من رشاشه مودعاً سفينة “أبو عمّار” التي أبحرت من بيروت إلى تونس؟ من ينسى رفضه الدخول في حرب المخيّمات؟ من ينسى موقفه التاريخي في قريطم وهو يرتعد كالفارس الشجاع أمام جثمان رفيق الحريري؟ من ينسى شلّال العمائم الذي زحف من الجبل إلى ساحة الحريّة عشية القتل العظيم؟ من ينسى صورته في وسط بيروت وهو يحمل لافتة كُتب عليها حمص بعدما تخلّى العالم بأسره عن الثورة اليتيمة في سوريا؟ من ينسى موقفه من غزّة عقب الطوفان الكبير؟ من ينسى الصفعة تلو الصفعة لموفّق طريف ومعه بنيامين نتنياهو؟ من ينسى زيارته التاريخية لقصر المهاجرين كأوّل شخصيّة عربيّة أو دولية تدعم الحكم الوليد في دمشق؟
ثمّة لوليد جنبلاط دينٌ لا تحمله إلّا الرقاب. حكايتنا معه طويلة ومتجذّرة ومستدامة. كلّما فقدنا البوصلة وجدناه في مقدّم الصفوف. كلّما أصابنا الوهن حمل مشعلنا ومضى. تكاملنا معه حدّ الانصهار. ثمّ افترقنا حد القطيعة. لكنّه بقي على الدوام حيث وجب أن يكون. وما موقفه من أحداث جبل العرب إلّا امتداد طبيعي لهذه التوأمة التي لن يكسرها عدوّ أو حاقد.
زيارة رؤساء الحكومات اليه هي وجه من وجوه هذا الوفاء، وهي تعبير مستفيض عن صحّة وسلامة وطنيّة طافحة. فالرجل الذي وقف كالجبل في مواجهة العواصف يستحقّ منّا أن نبادله الاحتضان. وأن نقف جميعاً إلى يمينه وإلى يساره في مواجهة شذّاذ الآفاق الذين ينهلون من العصبيّات ومن الشعبويّات ما لا يحتمله عقل أو عاقل. هذا حق وليد جنبلاط في ذمّتنا. وهذا حقّ شرفاء بني معروف في عميق وجداننا. فما بيننا وبينهم أكبر من أن يختصره حدث أو موقف أو سوء تقدير.
صحيح أنّ ما جرى في السويداء كبير، بل وكبير جدّاً، لكن الصحيح أيضاً أنّ العلاقة التاريخيّة بين الطرفين تفترض الكثير من الهدوء والتعقل، والذهاب نحو معالجته بعناية شديدة، والدخول بحوار مباشر تحت سقف الوحدة الداخلية ورفض الحماية الإسرائيلية، وهذا تماماً ما عبر عنه وليد جنبلاط منذ سقوط النظام السابق، مؤكداً أنّ مرجعية دروز سوريا هي في دمشق، وليست في أي مكان آخر.
اليوم انتصر وليد جنبلاط بشجاعة المبادرة، وانتصرت معه حكمة الدروز، وانتصرنا جميعاً في واحدة من أخطر المنزلقات على الإطلاق. كانت تجربة خطيرة مريرة، لكنّها درس هائل وعظيم، سنسرده دوماً على مسامع من يسمع: إسرائيل هذه لن تكون خيمة فوق رأس أحد. هي شرّ مطلق ونحن عرب أقحاح. نعرف الحقّ ونعرف أهله. ونعرف الباطل ونعرف أهله. وبيننا وبين الدروز خبز وملح ودماء ودموع وانتصارات مشتركة أيضاً.