سلايداتمقالات

فيروز !…

كتبت: كفا عبد الصمد

رحل زياد الرحباني تاركا ارثه الفني والموسيقي في خزائن الزمن الجميل، يخلد ذكراه ويشكل موسوعة فنية يستقي منها الباحثين عن نوع متفرد من الموسيقى…

رحل زياد وبقيت في البال صورة فيروز الام الحزينة التي كتب لها ان تودع احباءها لا ان يودعوها… فيروز الام الثكلى والمتألمة والمجروحة لخسارة فلذة كبدها، خرجت الى العلن لتتشارك مع الناس حبهم لزياد وتعيش امومتها بعيدا عن بهرجة الاضواء وقساوتها.. تخلت عن قدسيتها في ذاكرتنا، فيروز الايقونة، وتلحفت بثوب الامومة، وجلست امام نعش ابنها، متماسكة، حزينة، تصرخ بصمت، وتحبس دموعها بغصة، فتناجي ربها حينا وتترك نظراتها المختبئة خلف نظارتها السوداء تبحر في اللاشيء حينا آخر، وتبحث بين الوجوه عن سبب يعزيها ويخفف من آلامها…

لا اظن ان احدا توقع مشاركة فيروز في جنازة ابنها بهذه الطريقة، ليس من باب الغرور لكن للسن حق، وهذه السيدة على ابواب التسعين، لكنها شاركت ومنحت كل من رغب في مواساتها، فرصة لقاءها في اشد لحظات حياتها سوادا، وقفت بين الجمهور الكبير الذي شاركها في وداع زياد، هي التي اختارت دائما العزلة وعاشت في صومعتها، بين ذكرياتها وما تبقى من احلام، عادت اليوم بوشاح اسود ووجه حزين وشفاه نطقت حزنها بصمتها فقالت كل ما يمكن ان يقال..

من تابع وداع زياد الرحباني امس ومن المؤكد ان كثر تابعوه، دخل حجرة آل الرحباني في لحظة ضعفهم القاتلة، وشاركهم مصاب لم يكن في الحسبان، فشعر ان هذه العائلة التي بنت مجد لبنان، ورسخته صورة استثنائية في ذاكرتنا، هي عائلة لبنانية طبيعية، تجتمع عند الشدائد، تطرح مشاكلها جانبا وتقف يدا واحدة في مثل هذه الظروف… حين قبل ابناء العم يد السيدة العجوز الذي انهكها الفراق وبقيت صامدة ثابتة كحجر الصوان وارز الرب، تشعر بان لهذه السيدة هالة من القدسية ليس لانها فيروز التي تشارك الشمس بصوتها في الشروق، وليس لانها صورة لبنان في ذاكرتنا الفردية والجماعية، بل لانها رسخت وعن دون قصد صورة المرأة القوية والحنونة والمتماسكة والتي تعرف كيف تطوي عائلتها تحت جناحها حين يلزم الامر.. فيروز العظيمة كانت امس اما مكسورة، ولم تبخل علينا في مشاركتها حزنها، فكانت تومىء برأسها لكل من وقف امامها مترحما على ابنها..

اليوم نهار جديد من دون زياد، ستكمل به فيروز ما تبقى من سنواتها، تبحث في ذكرياتها عن عاصي وليال وزياد وتنظر الى عيون ريما وضعف هالي وتستمد منهما طاقة تكمل بها ما تبقى من عمرها…. اعتصر الالم قلبها، وقفت وجها الى وجه مع نعش ابنها، هذا الصغير الذي عاش في احشاءها وتربى على يديها قبل ان ينطلق في الحياة عبقرية متفردة لا مثيل له، مستلقي امامها جسد بلا روح، في صندوق خشبي يحتضن ثروة فنية وانسانية وطاقة فكرية قل مثيلها…

ترى ماذا قالت له في خلوتها، كيف تمكنت من حبس دموعها والخفاظ على تماسكها، كيف نعته في صمتها وماذا طلبت منه قبل رحيله الاخير.. في لحظة تحولت فيروز الى ام، مجرد ام، تخلت عن عظمتها ونزلت من برجها لتجلس جلسة ام مكسورة اختبرت صدفة الفراق مرارا.. حتى في الموت حافظت فيروز على صورة مختلفة عن النمط المتعارف وكانت استثنائية حتى في حزنها… فيروز لبنان لا تشيخ ولا تضعف، تبقى ايقونة هذا الزمان وكل زمان، لكن فيروز الام تنكسر وتحزن وتعيش ضعفها الطبيعي وهي تودع اغلى من في الوجود ابنها…

ايتها السيدة العظيمة لم يرتبط اسمك بلبنان من عدم ولم يحملك الرب هذا العبء من فراغ، كنت وستبقين في مجدك وفي ضعفك مرآة تعكس صورة لبنان الذي نتمنى ان نراه دوما..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى