
ليست هذه مجرد حالة فردية. ما قاله سامر لا يُختزل بجملة. هو صوت لبناني هارب من وطن ينهار ببطء، لكنه لا يملك مشهد الدماء ليقنع الغرب بأنه يستحق النجاة.
ضحية بلا اعتراف
في مركز احتجاز في برلين، كان سامر (27 عامًا) يروي حكايته ويقول: «ما كنت فارّ من حرب، بس فارّ من شي أسوأ… فارّ من حياة ما بقا فيها شي. لا شغل، لا مستقبل، لا كهرباء، لا سقف. لما طلعت من لبنان، كنت نايم عالأرض حرفيًا، وناطر نموت أنا وأمي من البرد أو من قنينة الغاز بالبيت يلي بلا تهوئة».
ينتمي سامر إلى فئة «اللبناني غير المرئي». لا يصنّفه القانون الأوروبي كلاجئ، لأنه ليس مطاردًا سياسيًا أو ضحية قتال مباشر، لكنه في الحقيقة ضحية نظام ينهار بالكامل: البنى التحتية، القضاء، المصارف، النظام الصحي، التعليم، وحتى الأمل. دفع 3900 يورو لمهرّب، وانتقل بين شاحنات وحقول وقطارات حتى وصل إلى برلين.
«وصلت على برلين وفكرت خلص، هلّق بيحنّوا عليّي… بس لا. الموظفة قالتلي: وضعك مأساوي، بس لبنان مش بلد حرب، ما فيك تبقى».
اليوم، ينتظر سامر ترحيله. يعيش على مساعدات متقطعة داخل مركز موقت، ولا يملك أي وسيلة للاعتراض القانوني. وعندما سألناه إن كان نادمًا، قال: «ما بندم لأني ما كنت عايش بلبنان، كنت عم موت شوي شوي، بلا صوت. يمكن موت هون أسرع… بس أكرم».
لجوء بلا رحمة
في عام 2024، قُدّر عدد اللبنانيين الذين تقدّموا بطلبات لجوء إنساني إلى دول أوروبية كألمانيا، فرنسا وهولندا، بأكثر من 4,600 شخص، وفق بيانات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. ورغم أن هذه النسبة لا تشكّل سوى 0.08 % من إجمالي سكان لبنان، إلا أن نسبة الرفض في ملفاتهم بلغت أكثر من 68 %، وهي من أعلى معدلات الرفض لطالبي اللجوء في أوروبا.
في السويد، الدولة التي لطالما شكّلت ملاذًا للهاربين من الاضطرابات، سجّلت ملفات اللبنانيين أدنى نسب قبول منذ أكثر من عقدين. وفي ألمانيا، يتم تصنيف لبنان ضمن الدول «الآمنة»، ما يؤدي إلى رفض معظم الطلبات حتى من دون دراسة معمّقة.
في المقابل، استقبل الاتحاد الأوروبي في عام 2024 أكثر من مليون طلب لجوء، غالبيتهم من سوريا وأفغانستان وأوكرانيا وفنزويلا، بينما لم يحصل اللبنانيون سوى على نسبة هامشية من الموافقات، وغالبًا ما تُختم ملفاتهم بجملة واحدة: «لبنان بلد آمن، لا حاجة للحماية».
تمويل للردع
في مفارقة مؤلمة، قدّمت الدول الأوروبية خلال السنوات الأخيرة مساعدات مالية بمليارات الدولارات للبنان، جزء منها مخصص لـ «منع الهجرة غير النظامية». المعادلة واضحة: ادفعوا للبنان ليمنع شعبه من الوصول إلينا، لا لكي يُنقذهم.
هكذا تحوّل لبنان إلى ما يشبه مخيم احتجاز مفتوحًا، يُطلب من شبابه البقاء وسط الانهيار، رغم غياب الكهرباء، الرواتب، والحد الأدنى من الرعاية. ومَن يجرؤ على الفرار، يُقابل برفض صلب لا يعترف حتى بالانهيار كسبب للحماية الدولية.
لا حرب؟ بل نزيف معلن
قد لا تسقط القذائف أو تنفجر طائرات، لكن في لبنان، الحرب لها وجه آخر: الجوع، الفقر، الاختناق. وبينما يصرّ العالم على أن لا حرب في لبنان، ينزف الناس أمام أبواب السفارات، أو داخل مراكز الاحتجاز الأوروبية، ببطء وصمت.
«اللاجئ اللبناني غير مرئي». لا يصنع عناوين كبرى، ولا تروّج له وكالات أممية لكنه موجود في الأزقة، في الخيم، في الطوابير، وفي المطارات… ينتظر اعترافًا، لا شفقة.