سلايدات

رسائل بري… و”الكلمة السواء”… والحوار الممنوع!

كتب جوزف القصيفي  في الجمهورية:

في الذكرى السابعة والأربعين لإخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، كان لرئيس المجلس النيابي نبيه بري كلام هادئ، حاول فيه أن يكون متوازناً لجهة حرصه على إبقاء جسور التواصل قائمة مع المكونات اللبنانية كافة. لكنه ضمّن كلامه تحذيراً، على كل مراقب التوقف عنده، وهو أنّ ما يتعرّض له المكون الشيعي من حملات إعلامية من غير جهة، قد يؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه، لأنّه يعرف انّ المكاسرة الإعلامية تستدرج مكاسرة مماثلة، وكذلك المواقف السياسية العالية السقف تحمل على مواقف بالمستوى نفسه، وتؤجج الاحتقان، وينطبق عليها قول الشاعر: «إن النار بالعودين تذكى/ وإنّ الحرب مبدؤها كلام».

فالرئيس بري هو من مدرسة الإمام الصدر الذي دعا منذ نشوب الحرب في لبنان وعليه عام 1975 وحتى تاريخ إخفائه مع رفيقيه إلى «كلمة سواء». وليس كـ«الكلمة السواء»، ما يفتح الطريق إلى الحوار والتقارب. ورئيس المجلس النيابي قارئ ممتاز للأحداث والوقائع، وبارع في وصل الصفاف، أو على الاقل رأب تصدّعات الجسور التي يفترض أن تحقق هذا الوصل.

وإلى ذلك، هو «مايسترو» في تدوير الزوايا، وليس فقط يحترف تربية الأرانب في قبعته ليخرجها في الوقت المناسب. ويفترض في القيادات التي لا تشاطر بري رأيه أو تعارضه، وهذا حق لها، التوقف عند مضمون الكلمة التي وجّهها إلى اللبنانيين الأحد الماضي، وملاقاته إلى منتصف الطريق ومناقشة الأفكار الواردة فيها، خصوصاً الدعوة إلى صوغ استراتيجية للأمن الوطني. فالمشهد العام – بصراحة تامة- لا يبشّر بالخير إذا كان الحل الذي سيُعمل عليه سيُبنى على قاعدة «غالب ومغلوب»، لأنّ أحداث التاريخ القريب لا البعيد، علّمت أنّ مثل هذا الحل سيكون قنبلة موقوتة لا تلبث أن تنفجر. فبعد انتهاء أحداث العام 1958 وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، كلّف الأخير الرئيس رشيد كرامي تشكيل حكومة عهده الأولى، فأقصى محازبي الرئيس كميل شمعون والقوى التي ساندته سياسياً وميدانياً في تلك الأحداث ومن بينها «حزب الكتائب اللبنانية»، وصرّح أن حكومته جاءت «لتقطف ثمار الثورة»، فتصدّى له رئيس الحزب الشيخ بيار الجميل، ودعا إلى ثورة مضادة دامت 21 يوماً، وانتصبت المتاريس بين البيروتين وكادت البلاد أن تُجرّ إلى حرب داخلية طائفية، لا سياسية، لو لم يبادر الرئيس كرامي إلى تدارك الأمر ويقدّم استقالة حكومته التي كانت تضمّ شخصيات محترمة من كل الطوائف. وتمّت الاستعاضة عنها بحكومة رباعية في الرابع عشر من تشرين الأول 1958 ضمّت إلى كرامي: الحاج حسين العويني، الشيخ بيار الجميل والعميد ريمون إده. هذا المشهد تكرّر مرّة ثانية مع بدء الحرب اللبنانية في العام 1975، عندما قادت «الحركة الوطنية» برئاسة الزعيم كمال جنبلاط مدعومة من «منظمة التحرير الفلسطينية» حملة عزل «الكتائب»، ونجحت فعلاً في إبعادها عن الحكومة التي تشكّلت برئاسة رشيد كرامي التي خلفت حكومة الرئيس رشيد الصلح المستقيلة، على رغم من تنبيه الرئيس صائب سلام من مغبة هذا السلوك الذي أثبت عدم جدواه وتسبب بمزيد من الشروخ باعتراف أركان الحركة الوطنية نفسها، عندما تيقنت أنّ اقتراحها الذي أخذ بها يومها، جعل من «الصيفي» محجة المسيحيين ومرجعيتهم بلا منازع، وكانوا يلتزمون قراراتها ويعملون بها، وبات الجميل «بطريركهم» السياسي الفعلي.

إنّ الرئيس نبيه بري قارئ متضلع في تاريخ لبنان ويعرف كيف يستخلص العبر من أحداثه ووقوعاته. وبات واضحاً أنّ الجيش اللبناني يعرف طبيعة الأرض، وحساسية المرحلة ودقتها، وهو على جهوزية لتنفيذ أي قرار للسلطة الإجرائية، لأنّه في دولة ديموقراطية برلمانية واضحة الدستور لجهة التمييز بين السلطات، لكنه مدرك لواقع الحال وتعقيداته، ولا يمكن أن يؤدي الدور الذي يوكل إليه إذا لم تتوافر له حاضنة وطنية وسياسية، تسمح له بالتحرك من دون مغامرة غير محتسبة ترتد سلباً على البلاد بأسرها. ومن هنا لا يبدو أنّ الحديث عن إستراتيجية الأمن الوطني في غير محله. وليس من المعيب تناول هذا الموضوع الذي ترفضه بعض القوى بذريعة كونه مدخلاً لبناء جيش رديف له أجندته الخاصة، وتسعى اليه قوى أخرى ليكون مظلة للمقاومة التي ستتحصن به لمواصلة حربها مع إسرائيل. فالمطلوب إستراتيجية متكاملة، مستمدة من واقع لبنان وإرادة أبنائه في تثبيت السيادة وصون الاستقلال. على أنّ هذا الأمر يصعب تحقيقه في ظل الانقسامات الداخلية والتدخّلات الخارجية في شؤونه، وهي بلغت حداً لا يوصف، بعدما بات مألوفاً أنّ لبنان ما أن يتحرّر من وصاية إقليمية حتى يدخل في مدار وصاية دولية، والحبل على الجرار.

 

كان الرئيس بري عاقلاً في إطلالة الأحد المنصرم، وداعية إلى التعقل والذهاب إلى الحوار كممر الزامي لأي حل مهما بدا مستعصياً. وفي الذكرى السابعة والأربعين لإخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، تعود بي الذاكرة إلى لقائي به في مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في الحازمية قبل شهر أو أكثر من إخفائه، وأجريت معه حديثاً شاملاً لجريدة «البيرق» ومجلة «لا ريفي دو ليبان»، وقد نُشر الحديث بعد إخفائه بسنوات في كتاب حمل عنوان «إمام ومحراب». ومن يطالع هذا الحديث يعرف سبب الإخفاء، وسيتبين له مدى قوة هذه الشخصية وقدرتها على التحليل والقراءة الواقعية: لقد كان خائفاً على لبنان. وصَدَق حدسه. وإذا أجرينا مقارنة بين ما أدلى به يومذاك وواقع الحال في هذا البلد، يسهل القول: إنّه يجيد القراءة في كف الأقدار.

 

وما يحزنني هو أنني كنت أول صحافي عرف عن طريق المصادفة بإخفاء الإمام ورفيقيه (سآتي على ذكر الموضوع مفصّلاً في مناسبة أخرى) ونقلته إلى إذاعة «صوت لبنان» وكنت مراسلها يومها، وهي كانت السبّاقة في بث هذا الخبر الصاعق. كان ذلك اليوم كئيباً، وكان وقعه مفجعاً، خصوصاً على مَن عرفوا هذه القامة الوطنية والدينية التي اشتهرت بانفتاحها على كل الطوائف، والمصاغة بحبر الحوار، بعدما اتخذت «الدعوة إلى كلمة سواء» شعاراً لها. فهل يتّحد اللبنانيون ليتجاوزوا هذا القطوع إنقاذاً لوطنهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى