
كتبت بتول يزبك في المدن:
على إيقاع العدّ العكسيّ لجلسة الخامس من أيلول، يدخل ملفّ سلاح “حزب الله” منعطفًا جديدًا يتقاطع فيه المحلّيّ بالإقليميّ، والميدانيّ بالدّستوريّ. فقد حدّدت الحكومة موعدًا لاستعراض الخطّة التّطبيقيّة الّتي أعدّها الجيش لحصر السّلاح بيد الدّولة قبل نهاية العام، وتكرّر رئاسة الجمهوريّة ومعها قيادة المؤسّسة العسكريّة عبارةً واحدةً: “لا عودة إلى الوراء”. في المقابل، رسم رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي “خطوطًا حُمراً” ضدّ أيّ فرضٍ بالقوّة، ودعا إلى “استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ هادئةٍ” تشبه في مضمونها اعتراض “حزب الله” على الخطّة بصيغتها الرّاهنة. ليست هذه جولةً سجاليّةً عابرةً، بل هي مواجهة على تعريف “القرار السّياديّ” نفسه: من يصوغه؟ وكيف يترجم؟ وهل يصبح قرار مجلس الوزراء نافذًا في ذاته، أم رهينة تفاهماتٍ تسبق التّنفيذ وتؤطّره؟ الأسئلة ثقيلةٌ، والوقت ضيّقٌ، والجلسة المقبلة ستتحوّل – مهما كان مآلها – إلى ميزان حرارةٍ يقيس قدرة الدّولة على فرض أولويّاتها، أوعلى الأقلّ، إدارة خلافاتها من دون انفجارٍ حكوميٍّ.
وماذا لو انتهت الجلسة الحكوميّة المقبلة من دون إقرار خطة الجيش؟ وما موقف القوى المسيحيّة وتحديدًا القوّات اللبنانيّة إزاء هذا السّيناريو؟
بصمة برّي وحدود “الحوار“
أعاد حديث برّي خلط الأوراق. فخصومه يرونه “حوارًا” يعيد النّقاش إلى نقطة الصّفر، أي نسف قرارات الحكومة أو تعليقها بعنوانٍ مطّاطٍ. ويعتبر مصدرٌ في “القوّات اللّبنانيّة” كلامه “خارج الزّمن” ونسخةً عن خطاب “حزب الله”، إذ إنّ الدّعوة إلى الحوار تعني عمليًّا إسقاط القرارات وضرب صورة الدّولة، ما يجعل “الحوار” في قاموس المعارضة المسيحيّة التفافًا لتعطيل مسار نزع السّلاح والعودة إلى ما قبل قراري 5 و7 آب. في المقابل، يؤكّد برّي وأنصاره أنّ لا “ساعة صفرٍ” دون استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ متوافقٍ عليها تحدّد الرّدع وأدوار المؤسّسات ومراحل الضّبط. هنا تنشأ المعضلة: هل تكون الاستراتيجيّة شرطًا للتّنفيذ أم نتيجةً له؟ وكيف لا تتحوّل ذريعةً دائمةً للتّأجيل؟ بين حسمٍ مطلوبٍ وتأجيلٍ مغرٍ، يبرز دور الرّئيس جوزاف عون في ضبط الإيقاع: تثبيت قرار حصريّة السّلاح مع إدارة نقاشٍ يحفظ وحدة الحكومة. ويحمل قائد الجيش رودولف هيكل خطّةً مرحليّةً بلا توقيتٍ حاسمٍ، متيحًا للوزراء هامش التّدقيق، فيما يدفع نوّاف سلام نحو قرارٍ فوريٍّ أو مسارٍ يمنع إغراق الملفّ في المهل المفتوحة.
القوّات اللّبنانيّة”: لا تراجع… ولا “استقالاتٍ استباقيّةٍ“
يقع تحت المجهر أيضًا موقف القوى المسيحيّة، وتحديدًا “القوّات اللّبنانيّة”. فالمصدر نفسه يؤكّد رفضًا قاطعًا لتصريح برّي “شكلًا ومضمونًا”، ويشدّد على أنّ قرار نزع السّلاح غير الشّرعيّ “صدر وانتقلنا إلى زمن التّنفيذ”. هل يعني ذلك استعدادًا لخطواتٍ تصعيديّةٍ كالتّلويح بالانسحاب من الحكومة إذا علّقت الخطّة؟ الجواب حذرٌ: لا مواقف استباقيّة؛ فالمعيار هو التّنفيذ لا السّجال، و”الجيش” هو الذي يقدّر ميدانيًّا كيفيّة تطبيق القرار. ويشير المصدر: “الأساس أنّ قرار الحكومة بشأن نزع السّلاح غير الشّرعيّ قد صدر، والجيش هو الّذي يقدّر ميدانيًّا كيفيّة تنفيذ هذا القرار. وقد أعلن الجيش اليوم، في بيانٍ واضحٍ صادرٍ عن قيادة الأركان، أنّه يحمي الوطن ويطبّق ما يطلب منه، وبالتّالي فالأمور سائرةٌ في هذا الاتّجاه. أمّا التّفاصيل العملانيّة فهي مسألةٌ عسكريّةٌ. المهمّ أنّ قرار مجلس الوزراء صدر، وانتقلت الأمور إلى مرحلةٍ وزمنٍ آخر، ولم يعد الإمكان متاحًا للتّراجع عنه. وليس مصادفةً أن يعلن “حزب الله” ضرورة التّراجع عن هذه القرارات، لأنّها—بمنطقه—”ضربةٌ قاتلةٌ” سياسيًّا؛ فقد انطلق مسار الدّولة، ولا يستطيع “حزب الله” وقفه أو إعادة عقارب السّياسة إلى الوراء”.” وبهذا التّحديد، تترك “القوّات” باب التّكتيك السّياسيّ مفتوحًا، لكنّها تقفل الباب أمام أيّ روايةٍ تصوّرها طرفًا متعجّلًا للصّدام أو مسقطًا للحكومة من الدّاخل.
ماذا يحمل الخامس من أيلول؟
في 5 أيلول تتأرجّح الجلسة بين أربعة مسارات مترابطة: إقرارٌ مشروطٌ يثبّت المبدأ ويترك الجدولة والانتشار للجيش مع تقارير دورية، بما يمنح الحكومة “دفعة سيادية” ويختبر جدّية “الحوار”؛ أو عرضٌ فـتريّثٌ تُقدَّم فيه هيكلية الخطة للنقاش ثم تُرجأ القرارات لدراسة الملاحظات، فيحافظ الثنائي على حضوره ويتجنّب التصويت ويكسب الجيش وقتًا لتوافقٍ تقني؛ أو انسحابٌ تكتيكي لوزراء الثنائي عند طرح التصويت، فتنتج قرارات “منقوصة الميثاقيّة” سياسيًّا ولو كانت قانونيّة وتُفتح أزمةٌ تتجاوز ملف السلاح؛ أو تعطيلُ النصاب، وهو سيناريو مكلّف يحوّل الخلاف إلى أزمةٍ نظاميّةٍ بارتداداتٍ ماليّةٍ وإداريّةٍ في بلدٍ لا يحتمل مزيدًا من الاضطراب.
شبح الحرب أم طمأنة الدّولة؟
يستبعد المصدر القواتيّ في حديثه إلى “المدن” الحرب أو الشقاق الأهليّ في حال لم تسر الأمور كما هو مخطّط لها، معتبرًا أنّ إسرائيل “غير مستعجلةٍ”، وأنّ خطر “حزب الله” ما يزال قائمًا لكنّها “أحكمت السّيطرة على واقعه بعد اتّفاق 27-20”. ويقول: “الدّولة اتّخذت قرارها في هذا الشّأن. إن أقدمت إسرائيل على شيءٍ فسيرتدّ عليها، لكنّي لا أرى أنّها مستعجلةٌ؛ فبالنّسبة إليها، خطر “حزب الله” ما يزال قائمًا، وهي مسيطرةٌ على الأجواء العسكريّة والأمنيّة، وقد أحكمت السّيطرة على واقع “حزب الله” بعد توقيع “اتّفاق 27-20″. اليوم يخرج الرّئيس برّي ليقول إنّ هناك محاولةً للتّكريس لما لم يحدث في الاتّفاق، وهذا يؤكّد هزيمتهم لأجل التّوقيع عليه. أمّا إسرائيل، فماذا يمكن أن تفعل؟ لا شيء يذكر. وفي كلّ الأحوال، نحن غير معنيّين لا بإسرائيل ولا بأميركا ولا بغيرهما. ما نقوله ببساطةٍ: يجب أن يكون هناك سلاحٌ واحدٌ في الدّولة؛ فلا يجوز في أيّ دولةٍ وجود سلاحين. هذا الوضع الشّاذّ، النّاتج عن الانقلاب على الدّستور منذ عام 1991، انتهى، وقد دخلنا في مساراتٍ جديدةٍ”.
في المقابل، يذكّر الواقعيّون بأنّ ضبط الخطّ الفاصل بين التّنفيذ الأمنيّ والسّياسيّ ليس ترفًا: فأيّ خطوةٍ ميدانيّةٍ غير مضبوطةٍ بإجماعٍ سياسيٍّ – ولو بالحدّ الأدنى – قد تتحوّل سريعًا إلى احتكاكاتٍ موضوعيّةٍ تخرج من يد الحكومة والجيش. من هنا الحاجة إلى “هندسة تنفيذٍ” دقيقةٍ: تجميعٌ تدريجيٌّ، وضبطٌ للمرافق الحدوديّة والمرافئ، مسارات تسليمٍ وتسجيلٍ، قواعد اشتباكٍ واضحةٌ مع أيّ خرقٍ، وغطاءٌ سياسيٌّ لا يتيح تصوير الجيش طرفًا في نزاعٍ أهليٍّ.”
بين الدّاخل والخارج: مصداقيّة الدّولة على المحكّ
يتقاطع الانقسام الدّاخليّ مع ضغوطٍ خارجيّةٍ. فإسرائيل – بحسب سرديّة خصوم “حزب الله” – لا ترى مصلحةً في التّعجيل، لكنّها تراقب وتستثمر. والولايات المتّحدة تضغط لتثبيت مسار “حصريّة السّلاح”، ولكنّها تربطه بترتيباتٍ حدوديّةٍ وأمنيّةٍ. والإقليم في حالة سيولةٍ، وأيّ اهتزازٍ لبنانيٍّ يمكن أن يمنح اللاعبين فرصةً لإعادة هندسة التّوازنات. وحتمًا سيكون الخامس من أيلول خطوةً إلى الأمام – ولو ببطءٍ. أمّا إذا تحوّل إلى مناسبةٍ لتثبيت معادلة “لا تنفيذ من دون حوارٍ ولا حوار من دون تعليق التّنفيذ”، فسنكون أمام هدنةٍ “ملبننةٍ” تنتج “ستاتيكو” جديدًا: لا سلاح حصريًّا بيد الدّولة، ولا قدرة على فرض السّلاح خارجها.. إنّما دولةٌ تدير التّعطيل وتؤجّله.