سلايدات

عندما يحاول “الحزب” تجريد الحكومة من شرعيتها

كتبت د. جوسلين البستاني في نداء الوطن:

 

في لبنان، تُخاض المواجهة حول أسلحة “حزب الله” بالخطاب السياسي بقدر ما تُخاض على مستوى القرارات. فالحكومة اللبنانية اعتمدت أسلوب إدارة الضغط عبر مفردات تتّسم بالحذر الإجرائي، ما يتيح لها الاعتراف بمسألة نزع السلاح من دون الالتزام زمنيًا بحسمها. وقد تُرجم ذلك في الإشارات إلى القيود اللوجستية، و”حدود القدرات” و”المهام الحساسة”، والتشديد على عوامل خارجية مثل احترام إسرائيل وقف إطلاق النار، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مظهر المبادرة. وتكشف كل عبارة عن جهدٍ في صياغة الأفكار وإظهار الكفاءة، إنما من دون الذهاب أبعد من ذلك.

لكن اعتماد الحكومة على التأخير الإجرائي لا يفسّر سوى جزء من المأزق؛ إذ إن الترسانة الخطابية لـ “حزب الله” تضمن أنه حتى لو تحرّكت الدولة بسرعة أكبر، ستظل النتيجة محجوبة. فهو من خلال إعادة تأطير موضوع أسلحته، حوّلها من مخزونات لميليشيا خارجة عن القانون إلى أدوات أساسية للهوية الوطنية والدفاع، بحيث يبدو نزعها بمثابة استسلام للتهديدات الخارجية. والأهمّ بالنسبة إلى “حزب الله” هو تجريد قرارات الحكومة المتعلّقة بحصرية السلاح من شرعيتها، عبر تصويرها بأنها “متسرّعة” و”متهوّرة” وفاقدة، وفقاً لمعايير قادته، لـ “الميثاقية”.

بشكل عام، فإن هذين النمطين اللغويين، تلطيف الكلام من جانب الحكومة وتمجيد السلاح من جانب “حزب الله”، لا يتعايشان فحسب، بل يُعزّزان بعضهما بعضًا بفعالية. فقرارات الدولة الإجرائية الممتدّة زمنيًا تمنح “حزب الله”، بطريقة غير مباشرة، المجال لتدعيم قدراته، في حين يُبرّر الإطار البلاغي لـ “حزب الله” وتهديدات قادته، نهج الحكومة الحذر الذي يترجم من خلال الدعوات إلى التدرّج في تنفيذ خطّة الجيش أو التحذير من زعزعة الاستقرار وصولًا إلى التأكيدات على السيادة. وكأن الإصرار المتكرّر على السيادة يُشير ضمنيًا إلى وجود شكوك أو صعوبة في الالتزام الكامل بها. والمفارقة أنّ هذه الاستراتيجيات الخطابية، على اختلافها، تتضافر في تكريس توازن سياسي يُمارَس فيه الحكم من دون أن تَنْفذ الإجراءات الجوهرية إلى خواتيمها، حيث يضفي خطاب كل طرف مشروعية لتقاعس الآخر. وفي هذا السياق، يغدو الحكم كأداء، تُستَبدَل فيه آلية التنفيذ الفعلي باستعراضٍ لغوي وإجرائي يهدف إلى إدارة التوازنات أكثر من تحقيق النتائج.

بالفعل، وعلى الرغم من أن الحكومة رحّبت بخطة الجيش لحصر السلاح، لكن طلب التقارير الشهرية يُشير إلى أمرَين: أولًا ، تسليط الضوء على الجيش الذي سيتعيّن عليه إظهار تقدم في نزع سلاح “حزب الله”، أو على الأقل في ترسيخ سيطرته، ما يُعرِّضه لضغوط سياسية. وثانيًا ،هشاشة الوضع بسبب السرّية التي تحيط بهذه التقارير التي سترافق تقدّم الخطّة. فهذا التعتيم يُحوّل نزع السلاح من عملية قابلة للقياس إلى أداء يُدار في الظلّ. الأمر الذي يعكس رغبة الحكومة في الحفاظ على المرونة السياسية والتخفيف من ردود الفعل التي ستصدر عن “حزب الله”، بقدر ما يعكس إمكانية ضعف التقدّم على الأرض.

لكن الخطورة تكمن في حال تبيَّن خلال “فترة الاختبار” هذه، أنّ خطّة “احتكار السلاح” التي وضعها الجيش اللبناني غير كافية في نظر الإسرائيليين، وإذا بدت التقارير المقدَّمة إلى مجلس الوزراء مجرد واجهة. والمسألة المطروحة هي التالية: هل ستُظهِر التقارير الشهرية (التي ستُسرَّب في نهاية المطاف أو يطّلع عليها الشركاء الدوليون) تطبيقًا ملموسًا، لا مجرد “تقدّم” مبهم؟ لأنه إذا أظهرت المعلومات الاستخباراتية في الوقت نفسه أنّ “حزب الله” يعيد تنظيم صفوفه بهدوء، فإنّ الحرب المقبلة لن تصبح ممكنة فحسب، بل شبه مؤكَّدة. فعلى الرغم من أنّ اللاعبين الخارجيين حاسمون في تحديد ما إذا كانت إسرائيل ستنتظر أم ستضغط على الزناد، لكن لا أحد منهم يستطيع أن يوقفها جذريًا إذا رأت “حزب الله” يتعافى.

ولا تكفي الإشارة إلى ترحيب الإدارة الأميركية ترحيبًا واسعًا بخطة الجيش اللبناني، وتقديمها المساعدات والدعم الدبلوماسي. لأنها أيضًا أبدت تأكيدًا واضحًا على ضرورة ترجمة قرار الحكومة اللبنانية إلى واقع ملموس. كذلك الأمر بالنسبة للتغطية الإعلامية الأميركية التي أقرّت بتوسّع الجيش اللبناني جنوبًا، غير أنها أشارت إلى الشكوك التي لا تزال قائمة، سواءً بشأن إمكانياته أو قدرته على الوقوف بوجه تعنّت “حزب الله”. باختصار، يُنظر إلى هذه الخطة على أنها مِحوَر واعد ولكنه هشّ، يعتمد من دون شكّ على التنفيذ الفعّال.

باختصار، لأن الكلام وحده لا يكفي؛ فالخطط التي تبقى سرّية إلى حدّ كبير أو يتعذّر التحقّق منها تُعامَل كتهديدات لا كوعود. من هنا، قد تلجأ إسرائيل، ضمن سيناريوات المصداقية الجزئية للتقارير، إلى ضربات محدودة لاختبار الامتثال بدلًا من التصعيد الفوري. أمّا في حال غياب المصداقية والتحقّق الفعلي معًا، فسيرتفع خطر التصعيد بشكل حاد.

بمعنى آخر: كلّما انخفض التنفيذ والتحقّق، ارتفع التصعيد. السيناريو واضح في بنيته ولا يترك مجالًا للالتباس أو السريّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى