سلايدات

من انتصر ومن انهزم على صخرة الروشة‎

كتب محمد سلام في هنا لبنان:

لم ينتصر طرفٌ على آخر في مهزلة مسرحية صخرة الروشة يوم الخميس الماضي. وحده الجيش انتصر لنفسه وحافظ على وحدته من انقسام مرجّح، كي لا أقول “شبه مؤكد” لو تدخّل ضد جحافل غزاة الصخرة.
حكومة الرئيس نواف سلام أول المهزومين، ليس لأنّ الجيش تدخل في المشهدية ضدها، بل لأنه لم يتدخل لفرض تنفيذ قراراتها التي تحظر ما حدث.

الجيش هو نسخة عن “الشعوب” التي يتكون منها الوطن. مسرحية الروشة، كما نُفّذت وليس كما حُظِرت، تمثل واحداً فقط من هذه الشعوب، هو الذي هتف المتظاهرون باسمه أثناء العرض: “شيعة، شيعة، شيعة”.
وبالتالي فإنّ تعرض الجيش لأحد مكوّنات لبنان، لو حصل، كان من شأنه أن يؤدي إلى إنقسام الجيش.

هل يمثل المشاركون في فولكلور إضاءة صخرة الروشة كل الشيعة؟
حتماً لا. لكنهم يمثلون شيعة التقديمات الإيرانية التي تبدأ بالسلاح ولا تنتهي بمخصصات النسوة الملتزمات بالزي المعتمد من قبل نظام الولي الفقيه إضافة إلى رواتب العناصر القتالية والإدارية المتفرغة في “حزب الله” وتأمين التغطية الاستشفائية والدوائية للأعضاء، والتعويضات لأسر الشهداء، والمؤسسات التعليمية الموجّهة لتربية بيئة إيرانية الولاء في لبنان.

أما الشيعة غير المؤيّدين لإيران فإنّهم ليسوا قلة قليلة لكنّ حرية آرائهم لا تستطيع مواجهة سلاح عناصر ميليشيا “حزب الله” إضافة إلى أنه يتم ترهيبهم، بين الحين والآخر، باغتيال المعارضين منهم كالإعلامي والناشط السياسي لقمان سليم الذي اغتيل مساء الرابع من شباط العام 2021 بخمس رصاصات في رأسه وظهره بعد مغادرة منزل صديقه في بلدة نيحا ضمن منطقة عمليات قوة اليونيفيل وعثر عليه صباح اليوم التالي في سيارته التي أوقفت في خراج بلدة العدوسية جنوبي مدينة صيدا خارج منطقة عمليات اليونيفيل في محاولة للحؤول دون مشاركة قوة الأمم المتحدة في التحقيق بمقتله. وبقيت قضية سليم دون معرفة من قتله أو من حرّض على قتله علماً بأنه كان قد تلقى تهديدات كتبت على منشورات تحمل عبارة “المجد لكاتم الصوت” ألصقت على جدار منزله في منطقة حارة حريك، معقل “حزب الله” في ضاحية بيروت الجنوبية.

إحتمال انقسام الجيش كابوسٌ لطالما أقلق اللبنانيين وكان أول من تنبه لخطره في الحرب الأهلية الأولى التي عرفت بثورة العام 1958 قائد الجيش في حينه العميد جميل لحود الذي حيّد الجيش عن الصراع بين اليسار المسلم الناصري واليمين المسيحي المؤيد لحلف الأقليات المعروف بحلف بغداد.
وبقي الجيش موحداً وخارج الصراع الذي دخله اليسار ضد قوات الدرك، حتى أنزلت أميركا قوات المارينز على شاطئ الأوزاعي في بيروت في 15 تموز العام 1985 بالتفاهم مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر وبقيت حتى انتخاب الجنرال فؤاد شهاب قائداً للجيش في 23 أيلول من ذلك العام.

يذكر أنّ العميد جميل لحود الذي حافظ على حياد الجيش ووحدته في ثورة العام 1958 هو والد العماد إميل لحود الذي انتخب رئيساً للجمهورية في 24 تشرين الثاني العام 1998 على خلفية احترام والده الذي كان يتمتع بشعبية قوية بين اللبنانيين.

رقّى الرئيس شهاب لحود الأب إلى رتبة لواء قبل تقاعده في العام 1959، ثم دخل عالم السياسة ففاز بدورتين انتخابيتين عن دائرة المتن الشمالي في العامين 1960 و 1964 وبعد سنتين تولى وزارة العمل والشؤون الإجتماعية واشتهر بتعاطفه مع الطبقة العاملة التي سُجّل الفضل له في ضمها إلى النقابات، فعرف بـ “اللواء الأحمر.”

حافظ الجيش اللبناني على وحدته حتى خاض تجربة الإنقسام الفعلي خلال الحرب الأهلية فتحالف اليسار-المسلم مع منظمة التحرير الفلسطينية التي دعمت مالياً وتسليحياً “جيش لبنان العربي” بقيادة الملازم أول أحمد الخطيب الذي انشق عن قيادته في ثكنة مرجعيون أواخر كانون الثاني العام 1976 لمواجهة التحالف بين اليمين المسيحي والرئيس السوري حافظ الأسد الذي كانت الجبهة اللبنانية قد عرضت عليه الكونفدرالية لمواجهة المد الفلسطيني-اليساري إلى لبنان.

وكانت عناصر من الميليشيات المسيحية تتدرب في معسكرات جيش الأسد على مدافع الميدان وراجمات الصواريخ السوفياتية الصنع عيار 130 و 107 ملم إستعداداً للمواجهة الكبرى بدعم إسرائيلي مع التحالف اليساري-الفلسطيني عبر ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” “South Lebanon Army-SLA” بقيادة الرائد سعد حداد الذي تمرّد على أوامر قيادة الجيش في ثكنة مرجعيون.

خاض جيش لبنان العربي آخر معاركه بالتحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (بقيادة جورج حبش) ضد ميليشيات متحالفة مع إسرائيل في بلدة العيشية في 21 تشرين الأول العام 1976.

كنت أغطي المعركة بصفتي مراسلاً ميدانياً لوكالة أسوشيتدبرس. أثناء تقدم القوة المشتركة من كفررمان باتجاه الجرمق قيل أنّ مسلحين متحالفين مع إسرائيل اعترضوا سيارة إسعاف للهلال الأحمر الفلسطيني خلال مرورها في العيشية وقتلوا طاقمها، لذلك تقررت مهاجمتها.
بعدما عبرنا المحمودية وقاربنا العيشية وحاولنا عبور “عبارة” أي جسر صغير عند مدخل البلدة خرج مسلحان من تحت الجسر فعالجهما رامي رشاش الدكتريوف برشق أرداهما.
قفز ثلاثة عناصر إلى تحت الجسر للإستطلاع، وعادوا ببندقيتي FAL ذات دبشكين وغطاءي بدن خشبيين قال بلال، مسؤول الجبهة الشعبية، إنهما من المصادرات الإسرائيلية من الجيش السوري.
الذخيرة في ممشطي البندقيتين حملت رموز ج.ع.س. (جمهورية عربية سورية) ما يعزز سردية بلال.
دخلت القوة إلى البلدة وتوجه زميلي نقيب المصورين الصحافيين زهير سعادة إلى الكنيسة لتصوير أهالي البلدة الذين تجمعوا برفقة الكاهن.
وبدأت مجموعات مقاتلة بتفتيش المنازل ومزارع الدجاج وزرائب المواشي، وعادت إحدي المجموعات وقد أسرت مسناً بدا لي في أواخر ستينات عمره، قالوا إنهم وجدوه مختبئاً في يخور بقر وأسروه لأنه يرتدي حذاءً عسكرياً “مموهاً”، ما يوحي، بالنسبة لهم، أنه من منشأ إسرائيلي.
جعلوه يخلع إحدى فردتي الحذاء ليدققوا بها، وصاح أحدهم “عليه كتابات عبرية” …
المسن غمرني، لم يتكلم. وضعت يدي على صلعته وشعره الشايب ما يجعله شبيهاً بوالدي وقلت لبلال إنّ الحذاء العسكري المموه يباع على البسطات في شوارع بيروت وصور.
نظر في عيني ذلك المسن شبيه والدي وغمرني بشدة وبدأت أنادي زميلي زهير ليساعدني على حماية شبيه أبي.
الأرجح أنّ زهير لم يسمعني. أمسكني أحد المقاتلين من يدي وسحبوا شبيه أبي وكانت آخر مرة أراه. سمعت رشق رصاص لكن كان يستحيل تمييز مصدره لأنّ الرصاص كان يطلق في كل الإتجاهات، ومن كل الإتجاهات.
غادرت العيشية عائداً إلى بيروت ومشهد ذلك المسن شبيه أبي لا يفارقني.
ومنذ ذلك الوقت يزورني شبيه أبي في المنام، بين الحين والآخر، لا يقول شيئاً، فقط ينظر في عيني والهواء يتلاعب بشعر صلعته الشائب.
تستيقظ زوجتي على أنيني، توقظني قائلة: “كابوس وحد الله”…
هو أحد ذكرياتي التي بقيت معي من مشاهد مهنتي. هو الوحيد الذي لا يتكلم، ولكن لماذا أئنّ أنا؟
هل هو عتبي على نفسي لأنني لم أستطع إنقاذ شبيه أبي؟
ربما …

وبعدما جرّب لبنان محاولات إنقسام الجيش المرة، يصح التساؤل:
من فاز نتجة غزوة الروشة؟؟
لا أدري ولكنّ الحقائق تشير إلى أنّ الجميع هزم، على أمل أن يحقق نصراً لم يُحتسب له.

عناوين الخسارة تشمل بعض ما كان فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون قد أعلنه في خطاب القسم:
“عهدي هو التعاون مع الحكومة الجديدة لإقرار مشروع قانون استقلالية القضاء، وأن أطعن بأي قانون يخالف الدستور، وعهدي هو الدعوة لإجراء استشارات نيابية في أسرع وقت لاختيار رئيس حكومة يكون شريكاً وليس خصماً …” من دون التشكيك في تنفيذ العهد بحصرية السلاح بيد الدولة لأنه لم يحن وقت استحقاقها بعد.

رئيس الحكومة نواف سلام، من جهته، كان قد وعد اللبنانيين في كلمة مقتضبة من القصر الجمهوري بأنّ حكومته “ستسعى إلى إعادة الثقة بين المواطنين والدولة، وبين لبنان ومحيطه العربيّ، وبين لبنان والمجتمع الدوليّ… سيكون على الحكومة العمل مع مجلس النواب على استكمال تنفيذ اتفاق الطائف والمضي بالإصلاحات المالية والاقتصادية، والحكومة ستكون مساحة للعمل المشترك البنّاء وليس للمناكفات …”

أيّ ثقة سيستعيد لبنان مع محيطه العربي والدولي ومواطنية بعد غزوة الروشة ؟
وأيّ إصلاح سيتحقق كما يقول سلام “بحل جميع الميليشيات والعصابات المسلحة؟”
لا شك في أنّ بعض الإصلاحات قد بدأ بالتحقق، لا سيما في ما يتعلق بضرب التهريب على أنواعه، والدعارة على أصنافها، ربما لأن من كان يغطيها محسوب على التحالف الأسدي-الفارسي البائد، لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
الأهم هو كيف سيتعامل لبنان مع “النسخة اللبنانية” من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء معاناة غزة عبر “إنهاء حماس” والتي رحبت بها غالبية عربية-مسلمة-دولية ؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى